فاكهة القول…

تكلَّم «ابن السمَّاك» يوماً وجاريةٌ له تسمع كلامه، فلمَّا دخل مخدعها قال لها مزهوَّاً : «كيف كان كلامي؟»، قالت : «ما أحسنه لولا أنَّكَ تُكثر ترداده وإعادته»، قال : «أُردِّده حتَّى يفهمه مَنْ لم يفهم»، قالت : «إلى أن يفهمه مَنْ لا يفهم، يكون قد ملَّه مَنْ فهمه»، ويلٌ لـ «ابن السمَّاك» من جاريته، فإنَّ ما قالته دلَّ على بَصَرٍ ومعرفةٍ بالْعِبْرَة والمُعتبر، وما خفي كان أعظم، يطويه الْقَدَرْ جمَّا، وفي سُوق الكلام سَقْطٌ كثيرٌ ومتاعٌ قليل، وأكثر البائعين اليوم ليس لديهم من فاكهة القول سوى ما نَخَرَه السُّوس وأتى عليه العَفَن وانتهت صلاحيته مُنذُ زمن، وحريٌّ بسُلطات العقل والنظر أن تحجر على مثل هؤلاء، ليس في زنازين من حَجَر، وإنَّما ليتناولوا ما يبيعونه للناس من سُموم، ليتبيَّن مدى الضرر الناجم عن الغشّ، وهُم أعلم الناس به، لأنَّهم مَنْ جَمَعَ الثمار التالفة وَطَحَنَ وَعَجَنَ وَخَبَزَ وَدَلَّسَ على الناس حتَّى وضع على ظُهور ذوي الفُهوم الضعيفة منهم الْبَرَادِعَ وفي رقابهم وأرجلهم القيد والرسن، ثُمَّ أخذ يُوردهم موارد التهلكة وهُو يضربهم بباطل القول ضرب غرائب الإبل، يتدافعون فوق بعضهم كأنَّهم «حُمُرٌ مُسْتَنْفَرَة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة»، وهُو الأسد الجائع يضرب ذات اليمين وذات الشمال، لا يلوي على شيءٍ حتَّى يُشبع نَهمَه، وما أشبه كثيرٌ من النهَّامين من بني البشر بهذه القساور الجائحة تُروِّع القطعان الآمنة في مراعيها.
يقول المُصطفى صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم : «إذا أُعطي الناس العلم ومُنعوا العمل وتحابَّوا بالألسُن وتباغضوا بالقُلوب وتقاطعوا في الأرحام، لعنهم اللَّه، فأصمَّهم وأعمى أبصارهم»، وقال «عيسى بن مريم» – عليه السلام – : «سيكون في آخر الزمان عُلماءٌ يُزهِّدون في الدُّنيا ولا يَزْهَدُون، ويُرغِّبون في الآخرة ولا يَرْغَبون، يَنْهَوْن عن إتيان الولاة ولا يَنْتَهُون، يُقرِّبون الأغنياء ويُبعدون الفُقراء، يتبسَّطون للكُبراء، وينقبضون عن البُسطاء، أُولئك إخوان الشياطين وأعداء الرحمن».
اختلَّت موازين الكلام، وَصَمَت قُضاته ممَّن يُنقِّبون في المعاني ويُدقِّقون في المباني ويتأمَّلون في العواقب على ضوء التجارب، لذا كَثُر الخَطَل وتناسل القوَّالون كالدبا من صغار الجراد، الذي يملأ الفضاء حتَّى يحجب عين الشمس، وقد أصبح الجاهل يُوجِّه العاقل، فينقاد له حتَّى يأخذ بخطامه كالبعير الذلول، والأعمى يأخذ بِيَدِ المُبصر حتَّى يُسقطه في حُفرةٍ لا قرار لها، كُلُّ ذلك تحت صيحات الحُرِّيَّة، التي باسمها يُسام الحقّ ويُلَّمع الباطل، وتحت راياتها يسير أنصاف المُتعلِّمين الذين يُشقشقون باللِّسان ما عجزوا عن رُؤيته بالعيان.
افتح يا سيِّدي الفضائيات العربية، التي ينوف عديدها عن الثمانمائة فضائية، ولا يزال الحبل على الجرَّار، حيثُ أصبح مَنْ لديه حُفنةٌ من الدُّولارات قادراً على تدشين فضائيته الخاصَّة، يَعْبُر بها القارَّات ويتجاوز المُحيطات، ويدخل البيوت من غير أبوابها، وسترى الْعَجَب العُجاب الذي كان مخفيَّاً، كما هُو حال المياه العادمة في المجاري الغائرة، ثُمَّ طَفَح إلى الأرض سُيولاً جرَّارةً تُزكم الأُنوف وتحمل الجراثيم والأمراض القاتلة والآفات، وفي مجالس الفضائيات يتربَّع باعة الكلام يهرفون بما لا يعرفون، يُحرِّضون ويُطبِّلون ويُزمِّرون، لهم في كُلِّ عُرسٍ قُرص، وفي كُلِّ حربٍ ضَرْب، وفي كُلِّ ائتلافٍ خلاف، وفي كُلِّ خلافٍ ائتلاف، إن وجدوا المجال مفتوحاً، فَبِهَا وحيَّا، وإن لم يجدوه اخترعوه ووجَّهوا سهامهم إليه، «ويا بها يا بجنبها»، على حدِّ قول أصحابنا.
الحاصل أنَّنا رأينا في العقد الأخير من المُشعوذين والمُعوَّقين فكرياً وممَّن يُسيئون آداب المُناظرة وفُنون المُجادلة، ما ينوء به الحكيم، وكان لذلك – عقلاً – أن يُفرز الغثّ من السمين، وأن يستقرّ الأمر على نُخبةٍ من ذوي البصائر، يأخذون بأيدي الناس ويُمرِّنونهم على التفكير السليم والتعبير الواثق والحثّ الصادق على العمل اللاَّئق، لكن، من أين يأتي العقل في دار المجانين؟ ومن أين تأتي العافية في قلب المُستنقع، حيثُ يتوالد الذُّباب والبعوض؟ لذلك تتسابق الفضائيات على المُقدِّمين المُهرِّجين والمُقدِّمات اللاَّتي أصبحن يتدافعن بالمناكب لا يكفُفْن عن الزعيق والنعيق ليلاً ونهاراً :
«خيرُ الكلام قليلٌ
على كثيرٍ دليل
والعيُّ معنىً قصيرٌ
يحويه لفظٌ طويل»

 

اترك تعليقًا