اليأس والإحباط ومشاعر التمرُّد والنأي عن الحَلَبَة القَذِرَة التي تُقتل فيها الجياد بلا رحمة، لم تَعُدْ وقفاً على عامَّة الناس ممَّن لا حول لهم ولا قُوَّة، والذين يعملون ويُعبِّرون وفق درجة «أضعف الإيمان»، وإنَّما امتدَّت هذه المشاعر الطافحة بالمرارة إلى مُستوياتٍ عُليا، أخذت تصرخ وتُولول وتُحذِّر وتُنذر وهي ترى الهوَّة الفاغرة شدقها تحت أقدام النظام العربي البائس الذي كان أعور فأصبح أعمى يسعى إلى حتفه بظلفه، وبعد أن كان العُميان يقودون مُبصرين لا بصيرة لهم، وفقاً لقول الشاعر :
«أعمى يقود بصيراً لا أباً لكمُ
قد ضلَّ مَنْ كانت العُميان تهديه»
أصبح القطيع كُلّه أعمى ينقُضُ اليوم ما غَزَلَهُ بالأمس ويشتبك مع بعضه البعض، مُتوهِّماً أنَّه يُجندل الأعداء، وهذه نتيجةً طبيعيةٌ محتومةٌ للسياسات العربية المُتواترة القائمة على الكذب القبيح والهُروب من المسؤولية وتبعاتها وصناعة المُؤامرات القميئة التي هي تجلِّيات أمراضٍ نفسيةٍ لعُقولٍ مأزومةٍ ونُفوسٍ محمومةٍ وأرواحٍ مسمومةٍ وإراداتٍ خانعةٍ معدومة، لذلك على المُواطن العربي المُتلهِّف على التحرُّك القومي، أن يصل إلى قناعةٍ بأنَّه ينفخ في قِرَبٍ مقطوعةٍ وبالوناتٍ مثقوبةٍ لن يُقدَّر لها أن تُحلِّق عالياً إلاَّ إذا جرى صهرها وإعادة تصنيعها وفق أُصول الدُّول المُحترمة المُصلِّية على النَّبِيّ، والتي تعرف جيِّداً أنَّ كراسيَّ الحُكَّام تكليفٌ لا تشريف، وأنَّ شرف السُّلطة من شرف الوطن وليس العكس، وأنَّ مُقايضي الاستمرار بالهوان مكانهم مزابل التاريخ، حيثُ يُوجد مُتَّسعٌ للَّعنات والرجم بحجارة الشيطان، وفي ذلك المكان الموبوء لا أحد يُمكنه المُغالطة في الحساب، فاثنان وعشرون صفراً تُساوي صفراً عارياً، كما هُو الحال الماثل.
ولا عزاء للغزَّاويين، الذين يعيشون في قلب الجحيم الصهيوني بانتظار الذي يأتي ولا يأتي من الذين دخلوا التيه وفيه يرتعون كالأغنام، وتعالوا نُلْقِ نظرةً من الداخل، وفق رواية جرَّاحَيْن نرويجيَّيْن تواجدا في قطاع غزَّة خلال الأيَّام العشرة الأُولى، حيث قالا : «إنَّ الوضع في مُستشفيات غزَّة كان أشبه بالجحيم، وأنَّ (مُستشفى الشفاء) كان أقرب إلى مشهدٍ من جحيم (دانتي)»، ويُضيف «ماس جيلبرت» : «فكَّرتُ أنَّ الجحيم لا بُدَّ أن يكون هكذا، كُلّ الصُّراخ، كُلّ اليأس، كُلّ الدماء، كُلّ الأعضاء المبتورة، وقد تمَّ في اليوم الأوَّل إجراء ثمانين عمليةً في (مُستشفى الشفاء)، حيثُ لم يكُن هُناك ما يكفي من غُرف العمليات، وكانت كُلّ غُرفةٍ تحوي جريحَيْن، وكُنَّا نُجري لهم العمليات في الأروقة»، طبعاً هذا غيضٌ من فيض، لأنَّ الأيَّام التي تلت والأيَّام القادمة ستجعل هذه المناظر مُجرَّد «بروفات».
من الأصوات النادرة على مُستوى القمَّة العربية ما أعلنه الديوان الملكي المغربي من أنَّ «مُحمَّد السادس» لن يُشارك في قمَّة قطر ولا في قمَّة الكُويت، بسبب «الوضع العربي المرير الذي بلغ حدَّاً من التردِّي لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ العمل العربي المُشترك»، مُضيفاً : «إنَّ مُجرَّد طرح فكرة عقد قمَّةٍ عربيةٍ استثنائيةٍ يُثير صراعاتٍ ومُزايداتٍ تتحوَّل – أحياناً – إلى خُصوماتٍ بين البُلدان العربية، وأنَّ من المُؤسف أنَّ هذه الخلافات الجانبية تُهمِّش القضايا المصيرية للأُمَّة، وفي صدارتها قضيَّة فلسطين، كما أنَّها تحجُب جوهر الصراع القائم في المنطقة، وتصبُّ في خدمة مصالح الأعداء الحقيقيين للأُمَّة».
وختم بالقول : «إنَّ هذا السياق المشحون بالشقاق يُعطي الانطباع للرأي العام العربي بوجود جوٍّ مطبوعٍ بمُحاولات الاستفراد بزعامة العالم العربي أو خلق محاور ومناطق استقطاب».
استشهادٌ مُطوَّل، لكنَّه مليءٌ بالقول والمعنى، فهذه شهادةٌ كاشفةٌ للتاريخ من داخل العقل السياسي العربي المُطَّلع، وعلينا تفهُّم مُسبِّباتها ومراميها وقراءة ما بين السُّطور ممَّا هُو بالضرورة أكثر فاجعيةً، حيثُ ما كُلّ ما يُعرف يقال.
«الزُّبيري» :
«تُريدون وَيْحَكُمُو أن نثور
وما نحنُ إلاَّ كَدُود القُبور
نعيش على جُثث الهالكين
أمثالكم من هُواة الشُّرور
نمصّ دماء مغاويركم
ونسخر من ويلها والثُّبور
نُعشِّش في هامةٍ عشَّشت
بها قبلنا كبرياء الغُرور
سنرقب مصرع أبطالكم
طويلاً وإنَّا لشعبٌ صبور»