تحاول الأجندات الدولية والإقليمية إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط مجددا واستيفاء ما عجز عنه غزو العراق حين هللت كوندوليزا رايس وبشرت بالديمقراطية التي جاء بها رئيسها إلى المنطقة على طبق من الموت الزؤام.. وكانت المرحلة الثانية في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006م والذي كان جاهزا للتنفيذ بغض النظر عن الذرائع التي عادة ما يقدمها بعض العرب بسخاء منقطع النظير لأن التعري في نظرهم جبن والحسابات مضيعة للوقت، ولا بد من تعميد الولادات المتعسرة بالدم المصبوب والنار ذات الوقود. وقد نظرت كوندوليزا لذلك العدوان بإطلاق صفة “الفوضى الخلاقة” عليه قائلة إن شرق أوسط جديداً سيبزغ من تحت الأنقاض كما هو حال الزهور التي تضوع عقب شتاء قارس بفضل إطلالة الربيع، ورغم العنف البالغ الذي دمر لبنان وبناه التحتية واقتصاده فقد كذبت حسابات بيدر والمقاومة حسابات حقل الموت الأمريكي الإسرائيلي، وما يجري في غزة الآن هو المحاولة الثالثة لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح المنظور الأمريكي الذي وضع يده على بترول المنطقة وهو السلعة الاستراتيجية في الحرب الضارية بيد القوى العظمى، ولكن هذا المنظور يريد أن يطمئن إلى عدم وجود مهددات قد تحمل مفاجآت مؤلمة ترفع الكلفة من الدماء والأموال ونزيف السمعة التي روج لها الوجة القبيح لليانكي الأمريكي مجسدا في جوانتاناموا وأبو غريب وبلاك ووتر، وقبل ذلك في إباحة المخرون الحضاري للعراق للنهب واستباحة الدولة العراقية أرضا وشعبا ومؤسسات، وليست الطائرات الإسرائيلية والدبابات التي ثقتل أهل غزة سوى طلائع الجيش الأمريكي نفسه الذي غزا العراق والذي يضع الخطط لمنطقة نفوذ لا لبس فيها تمتد من أواسط آسيا إلى المغرب العربي، وستستخدم في تشييد هذا المجال الحيوي لدولة عظمى تجد نفسها في مأزق مواجهة قوى صاعدة متحفزة وقوى قديمة مترقبة كل الأحجار الطائفية والأتنية والمذهبية وكل وسائل الإخضاع بالقوة والمكر السياسي والذهب إضافة إلى إشعال حروب أهلية ونفسية. إذاً فحرب غزة ليست سوى درجة في هذا الطريق الصاعد، وبما أن موازين القوى مختلة تماما بين المعتدي والضحية، والصف الوطني الفلسطيني مشروخ بصورة مفجعة والعمق العربي منقسم بين عبر الماضي في المواجهات والخوف من الآتي المجهول، فإن العدوان سيضع أوزاره ولكن على حساب المصالح العربية العليا، ولا عزاء للشعب الفلسطيني في شهدائه واقتصاده وآماله في المستقبل. علينا أن لا نوهم أنفسنا بالآمال التي لا تقف على أقدام ثابتة، فقد فرضت الحرب علينا، وتأكدت واشنطن أن معاهدات الإذعان ووثائق التسليم وخرائط الطرق التي تقود إلى جهنم قد أثبتت فعاليتها في شل الإرادات السياسية ولجم الاندفاعات الشعبية كما تأكدت أن معارك قريبة ستندلع بين المعتدلين والمتشددين بما يجعل أي خيار بديل مستحيلاً وشبه مستحيل. سنفتخر كثيرا بالبطولات الفردية والصمود ولكن الحروب ليست أوسمة تعلق على الصدور في الاحتفالات، وإنما هي تحديد مصائر وتغيير وقائع تصنع بالنار ما عجزت عنه السياسة بالمناورات والمفاوضات، ويبقى هناك مكر التاريخ وولادة قوى حية من قلب الرماد، وأنا لا أتكلم عن حرب غزة حصرا فليست سوى فاصل في حرب كبرى لم يخمد أوارها منذ 1948م ولكنني أرى وألمس لمس اليد البراكين المتفجرة في الصدور والحمم المتدفقة من القلوب والرهانات التي لم تنقطع على عقل مبصر وإرادة حازمة وأجيالاً ستتابع تقاطرها إلى ساحات الحرب المفتوحة.