«وفي اللَّيلة الظلماء يُفتقد البدر»، كم نحنُ بحاجةٍ إلى مَنْ يكتبون بالسكِّين في زمنٍ احترقت فيه حُقول الورد، ورحلت الغيوم عن سماواتنا، وذوى جمال النساء بعد أن هَجَرْنَ مضاجع الفُحول الجُبناء، فما من امرأةٍ تستطيع النظر إلى وجه رَجُلٍ عجز عن أن يحمي عرضها، وما من رَجُلٍ تتَّسع له الأرض بأسرها إذا هرب من عتبة داره وأخلاه للأعداء :
«لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتَّى يُراق على جوانبه الدم»
المسؤوليات على قدر المقامات، فَرَجُل الشارع الأعزل يخرج مُغاضباً مُلوِّحاً بيديه وصارخاً بأوتار صوته، فماذا عن رَجُل السُّلطة، الذي انتزع القرار من الناس؟ ماذا هُو فاعلٌ لحماية العرض والأرض؟ الناس يقولون له : «أقدم»، وهُو يُحجم، «غامِر»، وهُو يتآمر، «اظهر إلى النُّور»، وهُو ينام مع الخفافيش في الظلام، يقولون له : «اليوم اليوم وليس غداً»، فيقول : «الصباح رباح، اليوم خمرٌ وغداً أمرُ».
وأجمل أيَّامنا لم نعشها بعد، جميع حُكَّامنا العرب يترقَّبون مُرور العاصفة الغزَّاوية، قبل أن يمتطوا صهوات الجياد المُطهَّمة، ويُلوِّحوا بالسياط وينسجوا حكايات البُطولة من لُحمة الكذب وسُداه.
إنَّ عرش الرحمن يهتزّ لهذا الظُّلم والاستباحة، وعُروشهم مُطمئنَّةٌ محروسةٌ جيِّداً، فالوطن هُو القصر، والقصر مُنوّرٌ بسيِّده، وللطُّغام من العامَّة الأكواخ والتُّراب وعسف العساكر الذين قال فيهم «الزُّبيري» :
«والعسكريُّ بليدٌ … للأذى فطن
كأنَّ إبليس للطُّغيان ربَّاه»
وهذا ما نُشاهده في عواصم العرب بين القنابل المُسيلة للدُّموع وبين العُيون الباكية من القهر، بين طلقات الرصاص وبين الدم الذي يغلي، بين أصحاب فوق الذين لا يسمعون، وأصحاب تحت المشنوقين بكلماتهم ونداءاتهم، أَفَيَدُوْم مثل هذا الحال؟ هذا من المُحال، فحرارة الماء عندما تصل إلى (001) سنتيجراد تتحوَّل إلى بُخار، قُوَّةٌ هائلة، طائرةٌ تُولِّد انفجاراً مُروِّعاً.
آن للفراعنة أن يتَّعظوا، وأن يستيقظوا، فهُم ليسوا مُنزَّلين من السماء، وإنَّما هُم وكلاء، والوكيل لا يدَّعي ملكية ما كُلِّف بإدارته، وحين يعجز عن إدارة ما اؤتمن عليه، يُعيده إلى أصحابه وله حسنةٌ هي أجر المُجتهد المخطئ.
نتذكَّر «نزار»، «وفي اللَّيلة الظلماء يُفتقد البدر» :
«لم يبق من قُرطبةٍ سوى دُموع المئذنات الباكيهْ
سوى عبير الورود والنارنج والأضاليهْ
لم يبقَ من (ولاَّدةٍ) ومن حكايا حُبّها
قافيةٌ ولا بقايا قافيهْ
لم يبقَ من غرناطة ومن بني الأحمر
إلاَّ ما يقول الراويهْ
وغير (لا غالب إلاَّ اللَّه)
تلقاك بكُلِّ زاويهْ
لم يبقَ إلاَّ قصرهم
كامرأةٍ من الرُّخام عاريهْ
} } } }
مضت قُرونٌ خمسةٌ ولا تزال لفظة العُروبهْ
كزهرةٍ حزينةٍ في آنيَّهْ
كطفلةٍ جائعةٍ وعاريهْ
نصلبها على جدار الحقد والكراهيهْ».
إلى أين المفرّ يا ابن «القبَّاني» :
«أُريدُ البحث عن وطنٍ جديدٍ غير مسكون
وربٍّ لا يُطاردني وأرضٍ لا تُعاديني
أُريدُ أفرُّ من جلدي ومن صوتي
ومن لُغتي وأشردُ مثل رائحة البساتين
أُريدُ أفرُّ من ظلِّي وأهربُ من عناويني
أُريدُ أفرُّ من شرق الخُرافة والثعابين
من الخُلفاء والأُمراء، من كُلِّ السلاطين».
لا بُدَّ – أيُّها السادة – من تنظيف بيوتنا قبل الحديث عن تنظيف الشارع، ذلك «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّىْ يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»