الريحُ والعاصفة…

مَنْ يزرع الريح يحصد العاصفة، وفي المأساة – الملهاة – المُرجفة في جوارنا البحري في بلدٍ يُقال له الصُّومال، ما يُغني عن النُّذر لِمَنْ كان له عقلٌ أو ألقى السمع وهُو شهيد.

«مُحمَّد سياد برِّي»، الأب الرُّوحي لهذه الدراما الطاحنة، لم يتمكَّن من الإخلاء إلى نفسه القبلية الجامحة ساعةً من الوقت، بعيداً عن مُستشاري السُّوء، ممَّن يأكلون الرُّؤساء لحماً ويقذفونهم عظماً، لعلَّه كان اهتدى، إذا ما أخلص النيَّة، إلى أنَّ شعبه بحاجةٍ إلى العدالة وإلى المُشاركة الحقَّة في صُنع القرارات ذات الصلة بمصائره، لكنَّ الجُنرال ركب رأسه وقال ما قاله «لويس الرابع عشر» : «من بعدي الطُّوفان»، وقد كان، فأصبح أوَّل المجروفين، وقد روى قائد الطائرة التي ألقت به في أرضٍ غير ذات زرعٍ ولا ضرع، أنَّ جُلَّ همّه في اللَّحظات الأخيرة كان الاحتفاظ بالختم الرئاسي، غافلاً عن أنَّ مَنِ انتزع الكُرسيّ من تحته يستطيع أن يأتي بالختم بأسرع من ذلك الذي عنده علمٌ من الكتاب، والذي جاء بعرش بنت الهدهاد «بلقيس».

على كُلِّ حال، انتهى ذلك الرَّجُل موصوماً بتدمير بلده وشعبه وأهله الأقربين، وصولاً إلى «عظام الرقية»، الذين لم يبقَ منهم نافخٌ ولا ديَّار، لكأنَّ الأرض ابتلعتهم وغِيض ماؤهم، فتبخَّروا كالسراب.

الصُّومال بلدٌ غنيّ، كيفما أدرته تجده مُدرَّاً أرزاقاً وسمناً وعسلاً، ويتَّسع لأهله جميعاً، لولا علَّة العلل في التيَّارات التي تربَّت على الاستئثار لا الإيثار، وعلى الغلظة لا الرفق، وعلى الهدم لا البناء، وعلى تحكيم الهوى ونبذ العقل.

مساحة الصُّومال (637.657) كيلو متراً مُربَّعاً، وسُكَّانه بين السبعة والثمانية ملايين، وما من أحدٍ يدري كم أفنت منهم النوازل وكم عدد الذين هجُّوا في أرض اللَّه والمَهَاجِر، ممَّن استطاعت أقدامهم حملهم، ويكفي أنَّ نصيبنا في اليمن منهم نصف مليونٍ أو حوالي ذلك ممَّن نجوا من الغَرَق قبل أن يكونوا طُعمةً لأسماك القرش المُفترسة.

آخر الناجين الذين وصلوا إلى «ميفعة» على ساحل شبوة قبل يومين، كان عددهم (71)، ظلُّوا يدورون في خليج عدن، الذي تبلغ مساحته مساحة فرنسا تقريباً، (18) يوماً بدُون طعامٍ ولا ماء، بعد أن تعطَّل مُحرِّك القارب ونجا المُجرمون المُسلَّحون بأنفسهم بعد أن أوهموهم أنَّهم سيذهبون لجلب بطَّارية، وهكذا علقوا بين الماء والسماء، لا حول لهم ولا قُوَّة، وقد قضى نحبه منهم (48) – حسب تقريرٍ للمُفوَّضية العُليا للاَّجئين التابعة للأُمم المُتّحدة – قبل أن ينقذ البقيَّة خفر السواحل اليمنيون.

حقَّاً، إنَّ الظُّلم مرتعه وخيم، وهل تعلم يا سيِّدي أنَّ في الصُّومال نهرين : «جُوبا» و«تشبلي»، وأنَّها تمتلك أطول ساحلٍ في أفريقيا، (3200) كيلو متر، وفيها أكبر ثروةٍ من الإبل يحوزها أيُّ بلدٍ في العالم، وأنَّها تُصدِّر الموز الذي يُنافس ما تُصدِّره أمريكا اللاَّتينية، كما تُصدِّر الأغنام الصُّومالية، «البربري»، إضافةً إلى اللُّؤلؤ والأصداف، يعني الخيرات مُتوفِّرةٌ لو التقى أهل البلد على كلمةٍ سواء ونظامٍ عادل.

وخُذْ عندكَ البليَّة التي غصَّ بها مُجتمع الدُّول مُتمثِّلةً في القرصنة التي أصبحت صناعةً عابرةً للحُدود البحرية، وكان آخرها خطف الباخرة الأُوكرانية الحاملة للدبَّابات والأسلحة والذخائر، التي أخافت «مليس زيناوي»، رئيس الوزراء الأثيوبي، الغارق في حربٍ مُشتعلةٍ ومنسيَّة، وقد صرخ من نيويورك، مُعبِّراً عن خشيته «من استخدام الحُمولة لزعزعة الاستقرار في المنطقة بشكلٍ أكبر».

أمريكا لا تُنصت للحُلفاء الذين دفعت بهم إلى المحرقة، و«ما حكّ جلدك مثل ظفرك»، وقد جرَّبت واشنطن الاستئساد في برِّ الصُّومال عام 1992م، وتحالفت مع أُمراء الحرب، من جماعة اضرب وخُذْ ما فيه النصيب ثُمَّ اهرب، وَرَسَت الأُمور في الأخير على سحب جُثث الجُنود الأمريكيين بالحبال التي تجرّها السيَّارات على الهواء في بثٍّ حيٍّ صدم الرأي العام، فكان أن تركت واشنطن الجَمَل بما حمل، وولَّت ناجيةً بجلدها.

السُّؤال : «هل القاعدة بعيدةٌ عن موجة القرصنة؟ وإذا افترضنا ذلك، فكم من الوقت تحتاج لاستلام الزمام، خاصَّةً ونواتها الصلبة موجودةٌ هُناك، وهي تتشمَّم العوائد الأيديولوجية والنفعية كما تتشمَّم أسماك القرش دماء الضحايا؟» … لننتظر قليلاً، «ويأتيكَ بالأخبارِ مَنْ لم تُزوَّدِ».

اترك تعليقًا