وما هو عنها ..

ستظل الدوافع القومية والعرقية في صميم محفزات الحروب في عوالم البشرية المتناسخة والمتتابعة والمتشابهة كشبه الماء بالماء، فروسيا العظمى على سبيل المثال لا ينقصها العديد لكي تسعى إلى ضم مائتي ألف في اوسيتيا كما لا تنقصها الأرض وهي الأكبر مساحة في العالم لكي تسعى إلى ضم جيب جورجي تعترف هي به منذ تفكك الاتحاد السوفيتي ولكن بوضعية خاصة، كما أن جورجيا الخارجة من فك الأسد السوفيتي لا يمكنها أن تتوقع من الحرب سوى دمارها لفارق القوة الهائل بين طرفي النزاع وقد خسرت في أربعة أيام ما يتطلب تعويض عشرات السنين، ومع ذلك هناك من يخرج في تبليسي عاصمة جورجيا لدعم الحرب، وهناك في موسكو من يصوت على ضم اوسيتيا إلى روسيا، وكل هذا وذاك صب للزيت على النار التي اشتعلت في القوقاز الذي تتداعى فلوله إلى الميادين كما كانت تتداعى القبائل العربية في جاهليتها وياليتها تفعل في حاضرها:

وما الحرب إلاّ ما عرفتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

وتضري إذا ضريتموها فتضرم

هنا نجد النزوع القومي والعرقي خلف استقالة العقل:

الرئيس الروسي الشاب ميدفيديف أعلن ايقاف الحرب، بعد أن نالت جورجيا عقابها الذي تستحقه، على حد تعبيره، وللحق فإن للإيقاف حسابات أخرى إقليمية ودولية ومستقبلية، فالشبح الروسي قد ألقى بظلاله مجدداً على أوروبا وعبر الأطلسي، ويبدو أن موسكو لا تريد لرسالتها أن تتجاوز حدود المقبول حتى لا تنقلب عبئاً تنوء بحمله، كما هو حال نظيرتها أمريكا في العراق، وكما عانت الأمرين في افغانستان، ولكن «ما كل ما يتمنى المرء يدركه» فما من كائن يتصرف على أساس أنه وحده يملك الغابة، وإلا فسدت الأرض، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية حليفة جورجيا أخذتها «الخفة السياسية» حين خاضت في شجون القوقاز ولم تكن تعرف جيداً الحياّت القاتلة الكامنة خلف كل شجرة في تلك الأًصقاع الملاصقة ببطون الجبال، وهي اليوم حائرة في خطوتها اللاصقة فما بينها وبين روسيا ليس ملفاً واحداً يمكن فتحه أو إغلاقه بدون خسائر، وجورجيا المجروحة تنتظر المدد كمن ينتظر الغيث في صيف الصحارى، المحصلة هي أن الموقف تعقد جداً وضرب في صميم علاقات شعوب تلك المنطقة حيث عقدة مواصلات آسيا مع أوروبا وأنابيب البترول والغاز التي أخذت تتعرض للإغلاق.

وما ذهاب الرئيس الفرنسي ساركوزي على عجل إلى موسكو حيث ستلتحق به مستشارة ألمانيا سوى الدليل على أن صناديق العواصم الأوروبية قد امتلأت بالرسائل المؤجلة والتي لم يقرأها أحد بسبب المداخلات الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة، لقد حسبتها موسكو مع قرب رحيل بوش وشلل إدارته وعلوق أجنحته في العراق وإيران، كما وقتت مع بدء الأولمبياد الذي كرس الصين كقوة عظمى استثنائية، وبذلك قدمت الدليل السياسي على أن كل إضاءة سلام ووئام يمكن أن تشعل حرباً وخصاماً، وما هو عنها بالحديث المرجّم.

اترك تعليقًا