الجوع يعبر الحدود ويتجاهل القوميات واللغات والأديان، تارة يقتاده الجفاف، وأخرى توجهه الفيضانات المدمرة، فموازين الكون قد اختلت بسبب طغيان الإنسان وأنانيته ولا عقلانيته، وقد قيل أن العالم كما نعرفه بدأ تطوره بدون الإنسان وسينتهي حتماً بدونه، وفي كل يوم ما بين شروق الشمس وغروبها تنقرض مئات الكائنات الحية من الحيوانات والنباتات بسبب انهدام بيئاتها الحيوية ومصادر عيشها، وليس هناك من الساسة العظام ـ الذين يقودون القطيع البشري إلى الجحيم ـ من يستمع إلى العلماء أو حتى يتعظ بما تراه عيناه، فكم من الكوارث الطبيعية على سبيل المثال ضربت وتضرب الولايات المتحدة الأمريكية، وما هي إلا مقدمات لما هو أعظم وأهول، ومع ذلك فإن ساكني البيت الأبيض من أكلة الديوك الرومية لا يرون أي إنذارات ماحقة في كل ذلك، وهم يواصلون عيشهم الرخي دون أي إحساس بالمسؤولية إزاء البشرية التي يدعون قيادتها ويملون عليها ما تقوله وما لا تقوله «قل ولا تقل»، وفي التاريخ البشري أمثلة لا تحصى عن الصمم والعمى الذي يصيب الحضارات فتعجز حتى عن رؤية مقاتلها فيما هي تتدحرج إلى عالم الفناء خلال لهوها ولعبها وتحايلها على قوانين وسنن الكون التي لن تجد لها تبديلا.
بالأمس أشرنا إلى مأساة الصومال «الجار الجُنُب»، ولعل قراء كثيرين شاهدوا على الشاشة المنظر المروع للأطفال الذين أصبحوا «جلداً على عظم» ـ كما يقول الشاعر ـ أي لم يبق منهم سوى عظام القفص الصدري كشاهد على حياة تتسرب من أيدي الأمهات ومن بين دموعهن، ومن طواياهن الجائعة كأطفالهن.. والصومال ليس بدعاً في القرن الأفريقي، كما أن القرن ليس أعجوبة في القارة السوداء، وإنما هي مواقيت، «وإن منكم إلا واردها».. وكنت أقرأ أمس عن أثيوبيا التي تخوض حرباً عبثية في الصومال لا يدري فيها مقتول من قتله ولماذا قتله، حيث أوردت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» بعض تجليات الجوع في ذلك البلد المتاخم والذي يقارب سكانه الثمانين مليوناً، ومما ذكرته: في قرية هاديرو الأثيوبية، يتم وضع الأطفال واحداً تلو آخر في سطح ميزان معلق على قائمة خشبية، وفي أثناء ذلك تجحظ عيون الأمهات متوسلة إلى عامل الإغاثة التابع لمنظمة «أطباء بلا حدود»، بينما ينشغل هذا العامل بإطالة النظر إلى أرقام الميزان كي يحدد إلى أي مدى تستلزم الحالة المرضية للطفل ضرورة إطعامه وجبة غذائية ذلك اليوم، علماً أنه لا يتوفر لدى «أطباء بلا حدود» سوى بعض الأدوية وقليل جداً من زبدة الفول السوداني لإنقاذ الحالات الشديدة الخطورة، وتشير تقارير دولية إلى أن هناك نحو 21% من الأثيوبيين هم في أمّس الحاجة للمساعدات الإنسانية الغذائية العاجلة على إثر موجة الجفاف التي ضربت البلاد وأسفرت عن أسوأ الكوارث والأزمات الإنسانية، منذ أزمة المجاعة الشهيرة التي ضربت أثيوبيا في عقد الثمانينيات، فحصدت أرواح حوالي مليون نسمة، غير الملايين الذين خلفتهم وهم أشباه بشر، ربما يكون موتهم أرحم من حياتهم، والأدهى أنه حتى إذا وجدت النقود فإن الغذاء غير موجود وفقاً للمنظمة التي لا تنطق عن الهوى.
الحروب الطاحنة في القرن الأفريقي القائمة فعلاً والمتوقعة تغذي كارثة الجوع وتتغذى منها وعليها، فالجائع يستوي عنده الموت جوعاً والموت قتلاً، فهو يحلم بالكفن الأبيض حلمه بالرغيف الأسمر، وربما كان الأول أقرب منالاً من الثاني، ونستلهم من ابن أبي سلمى:
إذا لم يُطفها عقلاء قومٍ
يكون وقودها جُثثٌ وهامُ..