ذكريات من صنعاء (8) رأيتهما معا..

أخيراً التقيته في مركز الأبحاث والدراسات في صنعاء، وكان الزمن قد أحنى ظهره قليلاً وأثقل خطواته، ولكنه لم يستطع إطفاء التوهج الإنساني الذي يشع من عينيه والتفاؤل الذي يمنحه بالفطرة لكل من يتحدث إليه، وتلك النسمات الشذية من قطوف الآداب التي يطرز بها حديثه دون تكلف.

كان يسير إلى جانب الدكتور عبدالعزيز المقالح كأنهما توأمان:
اليدان معقودتان خلف ظهريهما، وكلاهما خط الشيب شعره والحديث متصل هامس لا يأنس إلى ضجيج اللامعنى المحيط بهما والذي يحاول اختراقهما بين الحين والآخر فيردانه رداً كريما لكأنهما من الفلاسفة المشائين الذين شغلوا الدهر درحاً من الزمن، وعلى سيمائهما يبدو الزهد حد الازدراء لما يتقاتل الناس عليه، ويتعجبون منهما كيف لا يخوضان فيه وهما المرموقان المؤهلان اللذان يجمع عليهما الخاصة والعامة.
ولكنهما كما بديا لي آنذاك في شغل شاغل من نفسيهما واهتماماتهما القديمة المستجدة، وقد جربا ألوانا من السلطة لم تزدهما إلا نفورا، وقد عرفا بسلطة المعرفة التي لا يمكن نزعها والتي تزداد ثراء كلما أعطيا منها ان الكنز في قلبيهما وعلى الرفوف المغبرة الحاملة لسبائك العسجد، وكانا ينظران بعيني القلب والحكمة الى الفراشات التي تتهافت على النار وهما يرددان:
لا أذود الطير عن شجرٍ        قد بلوت المر من ثمره
كان من الصعب علي أن اخترق تلك المودة والحميمية بين الرجلين اللذين تعارفا أو لنقل تمكنت معرفتهما واكتسبت الثقة غير المحدودة والتي لا يشوبها رنق في سجن القاهرة بحجة حيث كان والد الأستاذ عبدالعزيز مع الأحرار المسجونين وكان أستاذي الذي أراه الآن بجانب الدكتور عبدالعزيز سجينا هو الآخر، وصداقة السجن كصداقة الطفولة، وقد دار بهما الزمن دورة كاملة ليعودا إلى رحابة مركز الدراسات زميلين كأنهما لم يفارقا قاهرة حجة.
أخيراً تسربا من بعضهما واتجه كل الى مكتبه فانسللت وراء أستاذي أحمد حسين المروني لاؤدي واجب التحية وفرض المحبة لأن من علمني حرفا صرت له عبداً، وانما لان ذلك الرجل الكبير كان مدرسة في الوطنية، وآية في الشجاعة ونموذجاً في التواضع والوداعة.
وحين جاء إلى عدن والتحق بالمعهد العلمي الإسلامي مدرساً في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات….. لم يكن معلماً تقليدياً فقد كان صاحب رسالة يؤمن بأنها ستشق طريقها حتى النهاية وان طلابه وكل طلاب هم وقودها.
تذاكرت معه في «أبو ظبي» تلك الايام وأيام القاهرة حين كان سفيراً وكان رحمه الله لا يكف عن الحلم الوطني ـ من المهد إلى اللحد ـ وفي ديسمبر الماضي زرت المركز ورأيت الدكتور عبدالعزيز يسير وئيدا وحيدا فتذكرت الأستاذ المروني فأغمضت عيني حتى رأيتهما معا.

 

اترك تعليقًا