ذكريات من صنعاء (5)

عرف أستاذنا الشاعر محمد سعيد جراده بـ السرحان، أو الطوسان على حد التعبير العدني القابل للاشتقاق وله في ذلك حكايات تروى وإذا ما دخل الحالة تجده معك ولكنه غير موجود تماماً فإذا ما نبهته فز واحتاج الى وقت للعودة الى نفسه وهو غالباً يلهيك عنه بسؤال او سؤالين متتابعين يسترد خلال انشغالك بالإجابة عنهما أنفاسه اللاهثة القادمة من زمن بعيد لا تستطيع تحديده أو تخمينه. وقد لا يكون لسؤاله أو سؤاليه أية صلة جادة بالموضوع الذي كنتما تتحدثان حوله قبل الطوسان ولكنها حيلة نفسية لإبعاد الفضوليين عن عالم خاص جداً ربما كان أجمل العوالم التي عاشها ذلك الشاعر الكبير الذي لم ير من الحياة إلا خلب الأماني وبقدر ما كان يمحضها الوفاء كانت تنأى عنه بالجفاء.

ولصنعاء في ذاكرة الأستاذ الجرادة خمائل من المعاني الجميلة والجليلة وذكريات بعد بها البعد ولكنها لم تفارق مدارج روحه وكان يجد نفسه فيها مهما غاب عنها وكأنه لم يبارحها فتراه في صنعاء كأنه صنعاني كما كان في عدن ذلك العدني الصاخب وحين قرأت رسائله من تعز التي بعث بها لصديقه عبده سعيد الصوفي أدركت أنه كان كذلك في تعز.
ولا تشوب لغة الأستاذ المحكية شائبة تدل على مكان ما فهو العروبي الفصيح اللسان دون تقعر وإنما بسلاسة مرتبة وقيافة وهندمة لا يجيدها سوى الضليعين من الناس في كل فن من فنون الحياة وكان موسوعة أدبية وفقهية وفكاهية وحفاظة لا يشق له غبار.
وحين جلسنا الى القاضي عبدالرحمن الإرياني بمهابته ووقاره المشهورين لم يتعرف عليَّ وعلى صاحبي محمود الحاج ولكنه تعرف على الأستاذ جرادة فخصه بشيء من الالتفات الجميل أما في الجلسة مع الأستاذ الزعيم احمد محمد نعمان فقد أمسك الجرادة بالطوسان من قرنيه لكي لا يفوته شيء من بدهيات الزعيم الذي أقض مضجع عبدالناصر بمروياته من الشعر حيث المعنى في بطن الشاعر والمغزى بعيد المنال.. وكان الجرادة يعتبر نفسه نداً وأي ند أليس هو الوحيد الذي تصدى للإمام احمد ورد على قصيدته حول الاشتراكية الناصرية بقصيدة عصماء كان يفتخر ويفاخر بها لما بها من إحاطات فقهية وتخريجات اجتهادية أعطت ثقافة الجرادة مساحة للتعبير عن نفسها وميراثها وكانت لمحة من قراع سلمي ميدانه الشعر والتراث لا الحرب والسجال.. وكان الجرادة إذا ما شنع عليه مشنع من صغار الشعراء والكتبة قائلاً له في الزمن الثوري أنه من مداحي الإمام يرد عليه بالقول: «نعم.. مدحته لأنه كان عالماً يا أبا جهل».
ومن نافذة في القصر الجمهوري بصنعاء كان الجرادة يطوس في كان يا ما كان.. في قديم الزمان وفجأة دخل علينا الأستاذ عبدالله حمران وزير شؤون الوحدة وكنت افترض أن الجرادة سيهب للسلام عليه وشرح مهمتنا في إنشاء اتحاد واحد للأدباء والكتاب اليمنيين فإذا به في عالم آخر لم يمد حتى يده بالسلام كأنهما كانا يفطران معاً بالغرفة المجاورة ثم فتح الله على الجرادة فقال: يا عبدالله أخي. ماذا فعل الله بالخيل التي كانت هنا.. مشيراً الى الساحة.. عند ذاك لم أستطع معه صبراً فلكزته هامساً في أذنه أن نبدأ بالسلام والتحيات قبل السؤال عن الخيل فثار ثورة عارمة شتم من خلالها الجميع بلا استثناء وقائلاً: أن ما بيني وبين حمران يجعلني ألقاه كما أشاء وكان عبدالله حمران يحفظ شعر الجرادة كاملاً وهو أحد كبار المعجبين به المقدرين لمواهبه الفذة وروحه الطيبة المتسامحة.
وكان يرافقنا آنذاك الأخ محمد البازلي الذي ما أن خرجنا من مكتب عبدالله حمران حتى سأل الجرادة: ماذا فعل الله بالخيل التي كانت هنا يا أستاذ فالتفت إليه الجرادة يريد أن يقضم لسانه ثم إلي قائلاً: هكذا.. ستجعلني أحدوثة في مقايل صنعاء.. الله يسامحك يانقيب».

 

اترك تعليقًا