ذكريات من صنعاء (2)

تحدثت في زاوية الخميس الماضي من «ذكريات من صنعاء» عن محاولة لاستعادة المكان والانسان عبر الزمن الذي يتسرب من بين أصابعنا كما يتسرب الماء وقد يتسرب عبر الفوالق الزلزالية التي تحدثها فينا الأيام والليالي فنغرق في الركام وتحت الانهيارات إلاّ من لمعات تضيء الذاكرة في بعض المناسبات ومنها العودة الى عين المكان في زمن آخر وبعيون أخرى.

تحدثت عن مساوى احمد مساوى الحكمي الذي كنت أواخر عام 73م واوائل عام 74م أخترق اليه الشارع المتفرع من علي عبدالمغني الى منزله العامر المحاط بحديقة غنّا في بستان السلطان، وكان الرجل قد عاد من عدن محطماً يعيش ليومه ويقود جواد حياته باتجاه الرحيل الى ماوراء الشمس، ولكن الكرم التهامي لم يفارقه، كما لم تفارقه تلك الألمحية التي هي نتاج استعداد فطري وتعليم ديني وثقافة حديثة وتطلع الى ان يكون شيئاً مذكوراً في عالم السياسة والوطنية، فألف رحمة عليه.
ونزولاً في بستان السلطان ان لم تخني الذاكرة كان منزل الاستاذ عبدالله البردوني آنذاك وكنت أزوره بين فينة وأخرى، وكان بيته مفتوحاً كقلبه، وعقله منفتحاً تتعايش فيه الثقافات وتتحاور، اما شعره فيوزع كالمنشورات السياسية الممنوعة، ولم يكن راضياً عما يسمعه من تجاوزات، ومن تربّح سياسي، ومن سجون تتحدى انطلاق الشعب وتلوث البناء السياسي السليم، وماكان للخوف ان يعرف طريقه الى قلبه ومحبة الناس تحيطه وتنتظر منه التعبير عنها.
كان الأستاذ يستقبل ضيوفه هاشاً باشاً ويستفسرهم عن أحوالهم، ولايترك للصمت مجالاً، وبفضل موسوعيته فإنه يدلي بدلوه في أي موضوع، وبحسن الاستماع للآخرين ولايتحفظ أو يتعصب، وهو يحدب كثيراً على الهاربين من الجنوب حتى وان لم يكن يتفق معهم فيما يذهبون اليه فهو يساري الهوى لا من منطلقات ايديولوجية ولكن من منطلقات العدالة الاجتماعية كانت يساريته بردونية من صنع محلي يمني غير مستوردة، ولايمكنك ان تسمع منه كلمة تمايز بين اليمنيين، فهو وحدوي له شوق وهيام وان كانت له آراء في طرق الوحدة لم يكن يخفيها أبداً.
وكنت قد عرفت منزل الاستاذ المتواضع عقب الحرب اليمنية- اليمنية الاولى في بواكير السبعينات بحضور وزيري خارجيتي ليبيا والجزائر ووزيري الوحدة اليمنية أو الممثلين الشخصيين للرئيسين في الشطرين المرحومين عبدالله حمران وعبدالله الخامري والذي كان الناس يسمونهما «عبدالله نزل عبدالله طلع» تعبيراً عن اللاجدوى إذا لم تكن النوايا سليمة، وقد كانت غير سليمة في ذلك الوقت لدرجة ان الاستاذ الصحفي الكبير صالح الدحان الذي كان في صنعاء ممثلاً لممثل الرئيس سالم ربيع علي اقتحم احد اجتماعات الوزيرين مع وزيري خارجية ليبيا والجزائر وهو يصرخ بين الجد واللعب مخاطباً الجزائري بالقول: انت تصدق عبدالله نزل عبدالله طلع، كلاهما كذابان ولايريدان الوحدة، ثم يصمت ويعاود الكلام: اعطني 5 مليون دولار وانا اعمل انقلاب في الشطرين واوحدهما. وطبعاً صعق الوزيران بهذه النكتة السياسية التي نزلت على رأسيهما كالماء المثلج، ولكن الخامري كان الاكثر حرجاً لان صالح كان يمثله وبهذا الكلام فانه قد خلعه كما يخلع خاتمه مثلما فعل ابو موسى الاشعري في قصة التحكيم.
وقد مرت هذه النكتة المُرة المضحكة المبكية بسلام ولكن صالح دفع الثمن بعد حين فلم يعد ممثلاً لأحد، وانصرف في حال سبيله الصحفية، وعندما تسأله يقول لك، حبكت معي ياأخي، ثم يضيف:
وهل قلت غير الصدق يامنافقين.
اما دعوة البردوني الفقير للوزراء والمرافقين فقد كانت من تدبير «الغوبة» وزيرالخارجية محمد أحمد نعمان، وكان بذلك بعيد النظر في الكشف عن الوجه الآخر لليمن ممثلاً في المبدع البردوني، وفي تقديم رمز مشترك محل اجماع وفي إنزال الناس منازلهم، وهو الامر الذي أسعد الاستاذ، ثم أصر الغوبة على عودة الوزراء الى فندقهم سيراً على الاقدام وكانت ليلة مقمرة بهيجة تأملوا عبرها معمار صنعاء مضاء القمريات من الداخل، وكان هدف «الغوبة» ان يؤكد ان صنعاء آمنة واعصابها لم تعرف الاهتزاز.. وللموضوع صلة.

 

اترك تعليقًا