أظنني عثرت على مكتبه بالصدفة، وما أحلى الصدف، مع انني في اعماقي كنت اشتاق اليه وأتمنى ان أراه، ولكنني لم استطع العثور عليه إلاّ في تلك الصباحية الصنعانية الدافقة بالحيوية في اول شارع تعز قريباً من باب اليمن الذي كان يعج بالرائحين والغادين لاتدري من اين والى أين فالناس هناك كالطيور تقع على اشكالها، وحين دلفت الى مكتب صديقي الشاعر المحامي وجدت ثلة من القوم يحيطون به وهو جالس على كرسيه كالفريق، يقبض ورقة من هذا ويسلم ورقة لذاك ويطلب معلومة من ثالث، ثم يخربش في ملف على الطاولة ويسحب آخر من الدرج والناس يتكلمون في وقت واحد وهو يتكلم مع الجميع نتفه لهذا ونتفة لذاك وقد علت وجهه غبرة هي ضريبة العيش في تلك الزاوية من العاصمة في ثمانينات القرن الماضي، ومن حوله شعث غبر ولكن اكثرهم من اولئك الذين قيل فيهم «لو أقسم على الله لأبره» فخلف الجنابي قلوب تخفق ووجوه سمحة يكفي أنها تتوافد على هذا المكان للبحث عن حقوقها بطرق قانونية يجسدها المحامي بعلمه وعمله واجراءاته، ولم يكن ذلك أمراً مألوفاً في اليمن من قبل وانما هو من زهور الربيع الذي جاء مع 26سبتمبر.
ذكريات من صنعاء (11) عمر حسين البار
بالكاد لمح صديقي المحامي عمر البار وجهي في ذلك الزحام الناشب فوجدها فرصة لكي يفرنقع القوم من حوله ونأنس الى بعضنا ساعة من الزمن وصفها شوقي بقوله:
قد يهون العمر إلاّ لحظة وتهون الأرض إلاموضعا
.. أيوه يا بن البار..
ها أنتذا اخيراً وسط عجينة الناس، ملح الأرض.. وقد نجحت في الهروب من قبض الريح وباطل الأباطيل حيث كانت أحلامك تذوي والشعر يموت على شفتيك. دمشق نائية وعدن أنأى والمكلا أبعد من زُحل، وأنت كابن زريق البغدادي ما أبت من سفر إلاّ الى سفر، والآن تسافر في النفس، في مجاهيل القارات المغمورة داخل الروح، وليس لديك سوى مفتاح الشعر لعلّه يضيء في الاعماق البعيدة موطن الزلازل والاعاصير ومدافن التاريخ التي لايكف ساكنوها عن النواح طلباً لثارات قديمة تقلق مكاتب المحاماة وتهز صروح القضاء: خزّن عليها تنجلي ياصديقي.. وقد شاركنا المقيل في الغرفة الواقعة فوق المكتب عدد من الشعث الغُبر، لزموا الصمت والاستماع الحسن ونصبوا راداراتهم على آذانهم حتى لاتفوتهم شاردة ولاورادة بينما نحن نتحدث بـ«اللاّوندي» تلك التي وصفها الأعرابي بقوله: إنهم يتحدثون بلغتنا عن لغتنا بماليس من لغتنا.. وقد اخذوا يلفون قاتهم في العصائب ثم يضعونه تحت آباطهم ويرحلون واحد إثرواحد، فما القات الا الحديث، وان اكثروا فيه القول وأفاضوا.
خرجت بعد المغيب أتعكز بالاضواء الباهتة التي تقاوم النوم ولما تزل في بداية عملها وأمامها ليل طويل كليل امرؤ القيس تترنح فيه الأشباح من أثر القات.. سُكارى وما هم بسكارى.. وكنت اردد أبياتاً لعمر البار:
مضت بدداً أيام عمري كئيبة كأن حياتي والذي عشته قفزُ
وما وهنت خيلي ولا هدني السرى ولا خانني عزمي ولا نفد الصبر