أواصل الكتباة عن يحيى عمر (أبو معجب اليافعي) وأنا أسير تحت أمطار المحبة الغامرة التي تجود بها أشعاره كأنها باقات ورد عطرة نظِرة مهداة إلى الزمن العاشق، أسيح في رحابته وتوهجه في ملكوت الحب الذي احترق فيه كما تحترق الفراشات حول المصابيح، فكأن نصيبنا من رماده هذه اللآلئ التي لم تستطع النيران إحراقها، وجل ما فعلته أنها زادتها لمعاناً وصقلاً.
إن شاعرنا ينتمي إلى قبيلة الشعراء (المجاذيب) الذين لا يرجى شفاؤهم في الحب من أمثال (مجنون ليلى) و (كثير عزة) و (نزار قباني)، ولكنه لم يكن عاشقاً لامرأة بعينها، فقد كان متيّماً بالجمال الأنثوي سواء لمع مع جبين امرأة بيضاء وافتر عن ثغر أملودةٍ سمراء أو فاح من أردان لؤلؤة سوداء أو ثوى في مقلة غصنية خضراء. كان شاعر المرأة بامتياز يوشيها ويوشوشها، يحمل لها المرايا لترى أجمل ما فيها، يحيلها من امرأة عادية إلى أميرة تسكن القصور الحالمة، يحيطها بالوصيفات ويعطرها بالبخور ثم يبدأ العزق على المزامير ليتحول هو من ساحر إلى مسحور يعيش أجواء ألف ليلة وليلة، ويلتقط ثمرات الشعر المتساقطة في عالم الأحلام (وجميعنا نتذكر الأغنية المبتركة المعاني والإهاب) والتي شدا بها الفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي وغناها من بعده العشرات من المطربين:
|
يحيى عمر قال يا قلبي لمه تسهر
إن شفت شيء في طريقك واعجبك شله
إن كان عادك غريب ما تعرف البندر
إذا دخلت المدينة قول بسم الله
|
يخلص (يحيى) من هذا التقديم الطريف لشخصيته كعاشق يتّسم بالجرأة و الإغارة وحب المغامرة إلى تقديم رؤيته في حب الجمال الأنثوي:
|
اتبع هوى البيض جملة واعشق الاخضر
وساير السمر والاحمر كذا خله
اسمر مع البيض كم يحلى به المسمر
والشمع يزهى اذا شاف البهى مثله
الخضر بالله وفيهم نفحة العنبر
والبيض يسلوك للسمرة وللقيلة
هذا وهذا وهذا.. حبهم يسحر
يا من دخل في هواهم تيهوا عقله
خلوه يمشي وهو المسكين يتفكر
لما نوى بايصلي ضيع القبلة
الحب ياناس كم افنى وكم ادمر
ما ترحموا غير عاشق فارقه خله
لو كان بيده مفاتيح بحرها والبر
الارض باتستوي عنده كما قُبلة
|
ليس لدى (يحيى) ما يخفيه؛ فهو كتاب مفتوح، وهو كطفل يقول ما يراه ويعبّر عما يشعر به، ولا شأن له بالذين لا يرون أو الذين يقولون ما لا يفعلون، وهكذا نمضي مع (أبو معجب) ليأخذنا بلسانه العذب وخياله الخصب ونفسه الحواري إلى أجواء مغامرة عجيبة
|
وعاد قصةعجيبة في هوى الاخضر
شمه وطعمه وريقه يبري العلة
يامر وينهي ويحكم داخل البندر
دولة عظيمة ولا حد يعصي الدولة
وصلت لبابه المحروس اتخبر
متى يواجه ابو معجب يبا وصله
ما جيت الا وقالوا انه استعذر
ماعنده الا حمام الدار تسجع له
وهو كما البدر تاكي فوق ذي المنبر
و أربع صايف لأجلة قايمة قبلة
واربع يغنين وخمس ابكار تتخطر
وخمس لا قام يلعب يمسكوا حجله
فقلت قصدي اشاهد ذلك المنظر
ان كان هذا ملك فالمملكة لله
قالوا لي اطلع وسلم واستقم واحذر
تقصد بما قد عزمت ما جيت من اجله
طلعت وأني بزين اهيف زبيب اخضر
لابس مشجر ذهب والطاس والحلة
المركبة طاس والكرسي من الجوهر
المرشدي لو رأه لا بد يخضع له
فقلت سيدي بك المملوك يتجور
ارحم متيم بحبك يسألك بالله
قال أبشر ابشر لا تضني ولا تضجر
فشل هذا جبا لك مننا كله
|
هذه إذا دولة (أبو معجب اليافعي)… جزيرة الأحلام سكانها جميعاً من العشاق، تتمخطر فيها الحور ويعطر سماءها البخور، ولقد دغدغ بخياله وجمال روحه مواجع ملايين الفقراء والبائسين والبائسات وحتى الموسرين المتعطشين لنسمة عاطفة ندية، وما أظن (يحيى) كان هنياً في حياته ولا سعيداً في مناكبها، فخلف كل هذا البهاء والاطمئنان تتلمس روحاً معذبة ملتاعة، تركض في السراب، وهرباً من العذاب، ثم توقظها العناية على مشارف النهاية لتعبر البرزم بجموح الشعر وسلطان الخيال وهيلمان المحبة المتدفقة، لتحول المعدوم إلى موجود، والشاهد إلى مشهود، والضائع إلى مردود… تلك هي سلطنة الزمن الشعري… وسلطة سلاطين العشاق الذين حمل (يحيى) لواءهم في القرن السابع عشر الميلادي.
Reblogged this on آفاق خالد فضل النقيب and commented:
You can fool some people some time, but you can’t fool all the people all the time 🙂