حظي (يحيى عمر) في حياته وفيما تلاها بأوسع آلة إعلامية نقلت أشعاره وألحانه عبر البحار، فقد كان البحارة في ذلك الزمن هم المبشّرين بكل جديد وهم الذين يلقّحون الحضارات بأفضل ما في كل واحدة منها، كما كانوا زينة المجالس بما ينقلونه من عجائب وما يرونه من مشاهدات وغرائب، بما يثير خيال أهل البر الذين لا تعد تجاربهم ذات شأن وقد تسير حياتهم على وتيرة واحدة من المهد إلى اللحد. أما البحارة فهم الروّاد المغامرون، يجمعون إلى الموروث الشعبي المتجذّر فيهم أساطير البحر ومردياته، وأشباح عرائسه وجنيّاته، ويعقدون أسماءهم على أنغام الموج وتحت أضواء القمر والنجوم الساحرة، يستمعون إلى مغنيهم الذي يحرّك فيهم الشجون ويستثير الحنين (يذكرهم بالبعيد الغائب، ويُجري دموعهم وراء الحبيب المفارق، ثم يلطف الجو بإنشاد أشعار المغامرات العاطفية اللطيفة، ولا بد أن تكون النهاية مواتية بانتصار البطل ووصوله إلى مراده سواء بالحيلة أو بسحر البيان أو بالإغراء وهو ما يعيد إلى أذهاننا السّير الشعبية التي كان أهل البر يسمرون عليها قبل بزوغ عصر الراديو التلفاز. وليس عندي شك أن يحيى عمر كان يقوم بهذا الدور الشخصي الممتع الذي يخفف تعب الرحلة وعناء الإبحار على السفن الشراعية القديمة التي تمخر عباب البحر وهي معرضة للأخطار في كل آن.. ولا شك أن يحيى بمواهبه المتعددة وروحه العذبه وخفة ظله قد كان مطلوباً للمرافقة في مختلف الموانئ، يختار ما يروق له ومن يروق له وهو يحلم بالمدن الجديدة التي سيصل إليها ليستمتع بأطايب الحياة ويدق باب الحبيب:
|
يحيى عمر قال ما شأن القبيح
لمه لمه يا ضنين ذا الجفا
خليتني أمسي على بابك طريح
في البرد يا خل ما عندي دفا
بالأمس ميزانكم عندي رجيح
واليوم كفه إلى كفه هفا
ها بعد يا صاحب الوجه الصبيح
كفى كفى كف عن هجرك كفى
ساعة بها يشفي القلب الجريح
ونشرب الماء صافي قرقفا
أنا بوحشة وانته مستريح
ناظر لحتى يحين منك الوفا
بحر الهوى من دخل وسطه يصيح
ما يدخل البحر إلا العارفا
أما أنا في البحار أسبح سبيح
ماهر في البحر ماني خايفا
والله إني لنهبك واصرح صريخ
أقول خلي نهبني واختفا
صحيح قال أبو معجب صحيح
سراج في الريح ساعة وانطف
|
هكذا كان حل (يحيى المغترب) السعيد بموهبته، الشقي بحايته، مثل سراج في الريح ساعة وانطفا، حيث تختفي الحبيبات خلف البحرا وخلف الأستار، ووراء الأحزان التي تزرع الحياة بالأشواك التي تدمي أقدام طالبي الرزق، فكيف بطالب العشق.
وكان يحيى ينظر إلى العالم على أنه وطنه، وبما أن مهنته كانت صناعة الفرح فقد قاوم الميل إلى الشكوى والبكاء الإلتياع، وهي العواطف النواحة التي يصطنعها الاغتراب ويملأ بها وجدان المغترب، وحين فاض به الوجد ذات يوم عبّر عن أشواقه بصورة لم يسبقه إليها شاعر:
|
يحيى عمر قال ليت الهند في يافع
أو ليتكم بأرض يافع يا أهل هندستان
ما كان أن شي من أهلي والبعد ضايع
إن سبتكم قال لي ذا القلب عود الآن
وكم أنا بالمراكب نازلاً وطالع
تلعب بي أمواج بحر اللول والمرجان
ماشي لبحر المحبة والهوى رادع
إن هاج يسري به العاشق عجب ولهان
|
لقد كان يحيى ألوفاً لأوطانه الجديدة فيما ذاكرته تنزف حنيناً إلى مراتع الطفولة، وفي هذا التصاعق الكهربائي يتطاير شرر الشعر كأنه المعين بقول المتنبي:
|
خُلِقْتُ ألُوفاً لَوْ رَجعتُ إلى الصّبَى
لَفارَقتُ شَيبي مُوجَعَ القلبِ باكِيَا
|