أنصت عامة الناس الذين هم ملح الأرض للشيخ يحيى عمر اليافعي فأنزلوه مقاماً عالياً، وفتنوا به وبإبداعه في سمرهم ومجالسهم ومحافلهم، وكيف لا يفعلون ذلك وهو الذي منحهم المسرة، وجنّد حياته لإسعادهم وإدخال الفرح إلى قلوبهم، وما من أحد في جزيرة العرب كلها لم يسمع بيحيي عمر أو يردد أغانيه وينتشي بصوره البارعة المرسومة بريشة مصور حاذق يحول الكلمات إلى صور ويحول الصور إلى كلمات، فيما القوافي طوع بنانه بلغة سهلة تجاوزة اللهجات المحلية، وأنزلت الفصحى من سماءاتها العالية، فجمع بين البساطة الفاتنة والوضوح الجميل. وقد مكنته قدراته في إنزال الكلمات على الألحان وتأديتها في الغناء من امتلاك حاسة اختيار المفردة الغنائية، وهو يشبه في ذلك الجواهرجي الخبير الذي يميز الذهب الأصلي من المغشوش بمجرد النظر دون أن يضعه على المحك.
ولكن الخاصة من الذين يكتبون وينشرون، ويؤرخون وينقدون، ويتأملون أحياناً وكثيراً ما لا يتأملون، لم يعطوا هذا العَلم الشامخ حقه ومكانته، ولقد كانوا أسرى النظر الدوني إلى المغنين والمطربين وأصحاب الشعر العامي، وهي النظرة التي آن أوان نبذها، ففي هذا الشعر كنوز من الجمال الرقراق والخيال الخلاق، وفيه نبض الجماعة، والرؤية المجتمعية للنموذج، وكيف ينبغي أن يكون، وفي هذا النبع الفياض بالمحبة يتعلم الناس التسامح ويبتعدون عن الإنغلاق وجفاف العواطف والتعصب المقيت الذي يصيب صاحبه بالخواء الروحي والذبول العقلي، فلا يبصر في الدينا سوى القبح، ولا ينظر إلى الناس إلا بعيون الشك والريبة.
مالنا ولهذا ولهؤلاء، ونعود إلى ينابيع (أبو معجب اليافعي) الذي قاله عنه المستشرق الإنجليزي الشهير (روبرت سارجنت) صاحب كتاب (شعر ونثر من حضرموت)، “إنه كان أشهر الشعراء الشعبيين في وادي حضرموت، يتداول الناس أشعاره ويحفظونها عن ظهر قلب”. وهذا يدل على أن الرجل قد عبّر عن الناس وعواطفهم، لا عن نفسه فقط وهو واحدٌ من الناس، وليت شعري كم من الشعراء أو ممن يدعون أنهم شعراء قد حازوا مثل هذه المكانة الرفيعة في دينا الأدب والإبداع، وحين اقرأ لـ (أحمد فضل القمندان) صاحب الفتوحات الشعرية، وأبو المدرسة اللحجية في الغناء اليمني، أو للسيد (حسين أبوبكر المحضار) القامة السامقة في عالم الغناء الحضرمي، أدرك الدور التاريخي الكبير الذي نهض به يحيى حين حرّر الغناء والعواطف والعقول، وأطلق المواهب البريئة من الجمود والتقليد، لتنشد الحياة، فرسم الطريق لمن جاء بعده ممن تجاسروا وتقدموا الصفوف.
أخذت أتأمل في قصيدة يحيى عمر المعنونة (أبومعجب يقول العشق حالي) وما فيها من نبض لا يبليه الزمن، ومن بساطة لا تقبل الانكسار، ومن رقة تنساب إلى كل قلب عاشق مفتون:
|
أبومعجب يقول العشق حالي
ولكن عاد له نزلة وطلعة
وله أيضاً سهر طول الليالي
ودمع العين دمعة فوق دمعة
ومن حب الصبايا لا يبالي
ويخضع للهوى ألفين خضعة
ولا يختاف من طعن النصال
ولا تدخل معه بالقلب فزعة
أنا يا أهل الهوى قل احتيالي
حبيبي ما اعترف لي كيف طبعه
|
لاحظ الرشاقة في البناء، والموسيقى الداخلية الفنية وحسن التخلص دون أي حرج أو خدش في جسد الشعر، ثم سلاسة المعنى وخفة الروح التي ستنكشف أكثر وأكثر لاحقاً:
|
ملكني هاشني زين المشالي
وقطع مهجتي سبعين قطعه
وأنا المملوك له حالي ومالي
وكلي سرت في طاعه وسمعه
قوامه مثل الأغصان الطوالِ
سقى الله طينها من كل فرعه
وله عينين صنعة ذا الجلال
تماوج دمعها كرعه بكرعه
جبينه مثلما ضوء الهلال
يعاند بالمسامر كل شمعه
وريقه طب الأكباد العلال
عسل جردان صافي وسط شرعه
وعنقه مثلما عنق الغزال
نكع من قانصه عشرين نكعه
|
هذا التشبيه الجميل لعنق الغزلا هو في الأساس تشبيه كلاسيكي منذ كانت المرأة وكان الغزال، ولكن الريشة الساحرة ليحيى عمر بثت حياة جدية في المشهد بتصوير عنق الغزال وهو يفقز عشرين قفزة هرباً من الصياد القناص، ولعل الذين يشاهدون أفلام الطبيعة قد لاحظوا كيف يتطاول العنق للنظر إلى البعيد وأخرى حين القفز إلى أعلى وأعلى…ٍ