بعد أن تمكّن يحيى عمر من ناصية الشعر و روض خيوله الجامحة وحفر عميقاً في وديانه الخصيبة حتى وصل إلى الينابيع الغزيرة، أخذ يتفنن في تقديم عروض جمالية وإيقاعية مدهشة يستعرض من خلالها مهاراته اللغوية وإبداعاته الأسلوبية ورؤيته الجديدة إلى الحياة، وإعلانه قيام مملكة الحب في دنيا الشقاء ليسكنها أصحاب القلوب الغضة المتطلعة إلى الفرح، وأصحاب القلوب الكسيرة الشاكية، ولتأدي إليها العصافير المتعبة والفراشات الذهبية وشتلات الفل والورد والياسمين، ولم تكن مملكة (أبو معجب) تخلوا من المنغصات والشكوى والفراق ولكنه كان يعالجها بالحكمة وبالتي هي أحسن، بكثير من المودة واللطف والعتاب الذي لا يجرح:
| يحيى عمر قال دمعي سال لا هم دنيا ولا شي مال بحق من زيّنك بالخال يا راعي الحجل والخلخال |
ما تنظروا دمعتي ساله محد مخلّد على ماله يا عاقد الفل والواله خلي ليحيى عمر حاله |
أرأيتم عتاباً أرق من هذا وأكثر تحبباً وتقرباً إلى المحبوبة، إنه يكاد ينحو باللائمة على نفسه بما قد يشجع ربة الخال والخلخال على التمادي، ولكننا حين نمعن النظر في الأمر نجد أن صاحبنا قد خبر الغواني وعرف من خباياهن ما يعرفه الحكماء والمجرّبون، فليس أشق على قلوبهم من إعلان الاستغناء وها هو يقول “خلّي ليحيى عمر حاله” ثم يعاود الهجوم لأنه لا يريد لشعرة معاوية أن تُقطع، فهو إذا شدت المحبوبة أرخى وإذا أرخت شد.
| أنا بحبك كما المأسور قد لي سنة في ثلاث شهور والآن فاح وردك المنشور يا راعي الحجل والخلخال |
أمسي وأصبح على بابك واقف مناظر على بابك يا من لك أعين قتاله خلي ليحيى عمر حاله |
لقد لامس وتراً حساساً في قلب المحبوبة التي تسعد باعترافاته وتطرب لبوحه، وتراهن على صبره حتى تنظر في أمره، وهو يدرك كأي (دنجوان) محترف أن الصنارة قد غرزت، وأن السمكة الذهبية ستبتلع الطعم المموّه، لذلك فهو يغتنم الفرصة لوياصل الكر والفر.
| يا جوز يا لوز يا محبوب كن راقب الله يالمحبوب خليت يحيى كما المسلوب يا سُعد من هو لوصلك نال يا راعي الحجل والخلخال |
لا تحرم اليافعي وصلك أشفق على الصب لا يهلك وانت تلعب على مهلك يفعل على الحجل حُجاله خلّي ليحيى عمر حاله |
لاحظ التفنن في تقصيد القصيدة وتزيينها بالإيقاعات المتناغمة لكأن أصوات الحجول والخلاخيل تتوافق موتتجاوب مع دقات قلب العاشق الواقف على الباب منذ سنة وثلاثة أشهر، فيما المحبوبة ترقص (تلعب) ساهية لاهية كأنها لا تدري شيئاً، لذلك فهو يحاول أن يشد قليلاً قبل الانقضاض.
| حملت حمل الهوى الجاير واليم بان الجفاء ظاهر أحين في آح خلي مال يا راعي الحجل والخلخال |
ما حد صبر في الهوى صبري قد أشهر الزين في هجري نا معي نفس ما ماله خلّي ليحيى عمر حاله |
ها نحن نكاد نصل إلى نهاية اللعبة، والغواني يغرهنّ الثناء، وعند يحيى من هذه البضاعة الكثير، لذلك فإنه سيرمي آخر سهم في جعبته ليصيب به مقتلاً:
| وصالك الجنة الخضراء لو كنت يا فاتني تدرا شافعل لكم في الحشا قصرا وأعطي مية وأربعين مثقال يا راعي الحجل والخلخال |
ونارك الصد والهجران بحالتي يا قمر شعبان وابني مشاخص من الحمران والغيد عسكر وخيّاله خلي ليحيى عمر حاله |
إن عالم الغناء في جزيرة العرب لم يعد كما كان بعد يحيى عمر رائد المدرسة الحديثة وأستاذها المبرّز شعراً وتلحيناً.