في ذات يوم من عام 1971 جاءنا إلى الإدارة العامة للإذاعة والتلفزيون بعدن الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة، صاحب الروائع الغنائية التي شدا بها كبار المطربين اليمنيين والفقيه العالم الذي عارض باقتدار إمام اليمن في قصيدته التي أرسلها إلى عبدالناصر يفند فيها القوانين الاشتراكية والتي قطعت شعرة معاوية فيما بينهما (الإمام وعبدالناصر) .
الجرادة الصعلوك الجوّال أيضاً الذي يفيض في مجالس (القات) فكاهة ودعابة ومرحاً، ويتقبل بصدر رحب ومحبّة كل ما يرميه به الآخرون من سهامٍ طائشة أو نافذة، ومن ذلك ما كتبه عنه الصحفي صاحب الباع الطويل في الكتابة واللسان الأطول في النقد والحرابة (أحمد شريف الرفاعي) الذي قارن بين الجرادة وشوقي وعنون مقالته بما اعتبره قفشة صحفية مثيرة، الفرق بين الجرادة وشوقي كالفرق بين الجرادة والطيارة.
وبرغم أن الأستاذ الجرادة الذي علّم أجيالاً متعاقبة براتب يكاد لا يقيم الأود لأنه لم تكن لديه شهادات… فقد كان عصامياً علّم وثقّف نفسه، برغم أنه كان من شعراء الصف الأول الكلاسيكيين على مستوى الوطني العربي، إلا أنه – وهو ابن النكتة- قد أعجبته قفشة (الرفاعي) فصار يرويها في المجالس ويضحك لها من أعماقه.
الجرادة ملك النسيان وأستاذ (الطوسان) على حد تعبير أهل عدن الذي طالما شبّت الحرائق بسببه في العديد من مجالس (القات) لأنه يشعل السيجارة الأولى ويمج منها نفسين ثم ينساها ولا يلبث أن يشعل الأخرى… لذلك فقد كان من فكاهات المجالس ضبط الجرادة في مثل تلك الحال… وله في مجال (الطوسان) نوادر وحكايات تحتاج إلى كاتب مثل الجاحظ ليؤلف منها كتاباً مثل كتاب (البخلاء).
المهم… جاءنا كما أشرت في بداية المقال وقال: “يا إخوان… أنتم جميعاً مدعوون عندي على صانونة موز (إدام)”… ولم يكن أحد في ذلك الصقع في القطر اليماني قد سمع بصانونة الموز، رغم أن المطبخ العدني من أفضل المطابخ العربية.
هرش الجاوي صلعته وقال: “بطّل المزاح يا جرادة… الآن معانا شغل”… فأجاب الجرادة: “الله يلعنك إنته وشغلك… عامل زعيم ولا أنت داري إيش يجري في البلاد”…رد الجاوي: “أنا ابن عبدالله… إيش الموضوع؟”.
جلس الجرادة على الكرسي ومازال يلهث وروى القصة التالية: “شوف يا سيدي… خرجت بعد صلاة الفجر حسب توصيات الزوجة لأكون أول الواقفين في طابور شراء (الخضرة) من هذه (البلوة) التي سمّوها جمعية تعاونية، ومع ذلك كان حوالي عشرين شخصاً قد سبقوني، وحوالي 15 حجراً مصفوفة ضمن الطابور، ولا يتجرّأ أحد على زحزحتها لأنه قد لا يعود إلى بيته أبداً… المهم، فتحت الجمعية أبوابها في الثامنة ووصلت الشباك في التاسعة والنصف فسجّل الكاتب طلباتي وطلب مني الوقوف في طابور شباك الدفع، ووصلت في الحادي عشرة والنصف، وأرشدني أمين الصندوق إلى طابور استلام الخضرة، ووصلت في الواحدة مع أذان الظهر… قرأ الموظف الورقة: بامية مافيش… خذ موز، طماطم مافيش… خذ موزوهكذا تحولت كل طلباتي إلى موز… طيب أريد فلوسي… لا ممنوع، عدت إلى البيت على رعود الزوجة التي لا تدري شيئاً مثلك يا (جاوي) عمّا يدور في البلاد، وكان الأولاد قد عادوا من المدرسة يبكون من الجوع… رميت الموز في وجهها وقلت: اعملي صانونة موز… وجيت أعزمكم”.