لحم لا يرحم، وكلمات قاتلة – 16

أخذت الكلمات والاصطلاحات واللغة الجديدة تطحن في طريقها كل شيء، تهد أشياء حقيقية، وتبني عالماً من الوهم، وكانت جبال عدن ترتجف تحت سياط الكلمات، وثمة من همس بكلمات في آذان القيادة بأن الخطر الداهم سوف يأتي من (فرشات) باعة الخضار، ومن قوارب الصيد البدائية التي يتعيش منها ناس من أفقر خلق الله وأكثرهم بؤساً، وعلى أثر ذلك تمت غارة قانونية جعلت آخر معقلين للرأسمالية والبورجوازية أثراً بعد عين، وتم منع هواة صيد السمك من رمي صنانيرهم في البحر وهي العادة التي درجوا عليها منذ عشرات السنين ذلك أن بحر الله الكبير لا يتسع لهم ولحكومة الثورة معاً.

وهكذا (تطوّرت) البلاد وأصبحت طوابير المعيشة شغل الناس الشاغل وحديثهم الدائم، ولم يعد هناك سمك طازج، واختفت أنواعه الجيدة التي يعرفها الناس، وظهرت أنواع جديدة ما أنزل الله بها من سلطان، ومنها نوع سماه الناس (شارلستون) نسبة إلى البنطلونات الضيقة من أعلى والواسعة من أسفل، كما نزل إلى الأسواق اللحم الأسترالي (المكفن) بلباسه الذي يشبه كفن الأموات… فقد تم حرمان العاصمة من اللحم المحلي بقرار صارم، وانشغلت القوات المسلحة بتفتيش السيارات تفتيشاً دقيقاً فإذا كنت قادماً إلى عدن من أبين أو لحج ووجدت بحوزتك قطعة لحم لأطفالك الجائعين تكون قد وقعت تحت طائلة قانونٍ لا يرحم.

وقد روى لي أحد الأصدقاء أنه دعا على الغداء قائد الميليشيا آنذاك (حسين قماطة) الذي تجمعه به قرابة من نوع ما ورأى أنه من العيب أن يولم له من (اللحم المكفن) فذهب إلى أبين المشهورة بأجود أنواع اللحم في اليمن، فاشترى رأس غنم وذبحه ثم أخفى اللحم في (التاير) الاحتياطي للسيارة بعد أفرغه من الهواء، وقد نجحت خطته نجاحاً باهراً، حيث لم تكن القوات المسلحة آنذاك تستخدم أجهزة الكشف بالأشعة عن اللحوم.

المهم – يقول صاحبنا- قضى قائد الميليشيا قضاء مبرماً على اللحم وشكرني، وفي اليوم الثاني فوجئت باستدعائي للتحقيق بتهمة تخريب الاقتصاد الوطني وتهريب الثروة الحيوانية، وكان ضيفي هو من بلّغ عني وبعد عناء دام عدة أشهر وصلت أخيراً إلى مكتب قائد الميليشيا نفسه الذي حذرني وأنذرني قائلاً: “إن الموت ينتظرك إذا كررت هذه الفعلة السوداء” ولا يعتقدن أحد أن في ذلك مبالغة، فقد طارت رؤوس كثيرة بسبب علبة (نيدو) أو ما هو أقل شأناً من ذلك.

وعلى ذكر الكلمات وخطورتها حيث لا يوجد في الحياة أنعم وأقوى من الماء إلا هي، أذكر أنه جاءني ذات يوم صديق قديم جمعتني به كرة القدم وفرقتنا السياسة، وكان (عبدالله السبولة) يشتغل (فراشاً) في البنك المركزي ثم وجد نفسه على رأس (الأشكال النضالية) في البنك من نقابة ورقابة وغيرهما، وكان في موقعه ذاك أخطر من أكبر مسؤول في البنك، فدانت له الرقاب ولم تبق سوى الكلمات، فقد كان يعجز عن النقاش وهو الذي لا يفك الخط، المهم قال لي أنه سيأتمنني على سر خطير، وقد ذهبنا سوية إلى ظلال قلعة جبل (صيره) حيث أخرج كتيباً عن (الاشتراكية) طلب مني بخجل أن أشرح له محتوياته، وقد أخذت في الشرح ساعتين أو نحو ذلك حتى أصبت بالإعياء فقال لي: “ما فيش فايدة” ورمى الكتيب إلى الأمواج… وبعد فترة من الوقت أذيع خبر انتحار (عبدالله السبولة) وأظن أن الكلمات هي التي قتلته.

اترك تعليقًا