الرئيس يخطب في الغربان – 19

لم يكن أجدادنا العرب مجحفين بحق الغراب عندما رموه بالشؤم ووصفوه بأنه (غراب البين) أي نذير الفراق وعلامة البلاء، ولو كنت في تلك الأيام الرمادية أزجر الطير وأقرأ حركاتها في السماء لما كنت قبلت بالمهمة التي كلفني بها (عمر الجاوي) المدير العام للإذاعة والتلفزيون بعدن في مطلع السبعينات من قرننا هذا، ذلك أن الغربان كانت قد سيطرت على سماء المدينة سيطرة تامة وقضت على كل طائر آخر وشكلت عصابات تعيث فساداً حيثما حلت وارتحلت، وعلى كثرة مادالت دول في اليمن الديمقراطية آنذاك، إلاّ أنّ دولة الغربان لم تدل وسبحان من له الدوام…

وتفصيل ذلك أن الرئيس سالم ربيع علي قرّر عقد أول مؤتمر صحفي له، وإذا كان أي مسؤول من الدرجة العاشرة يعقد الآمال الكبيرة على أول لقاء له مع مرؤوسيه ولو كانوا ثلاثة أفراد فكيف برئيس دولة يخاطب الملايين..؟

وقد خابرني الجاوي على عجل: “مسجّلك ودار الرئاسة يابن النقيب… بيّض الوجه بسؤالين ثلاثة من الذي يعجبوا، وأكمل تسجيل وقائع المؤتمر لنذيعها عقب انتهاء اللقاء”.

قل استعديت وتحزّمت ووضعت في رأسي كم سؤال أخذت أتحفظهم وأتمرّن عليهم بيني وبين نفسي، حتى وصلت دار الرئاسة حيث قابلتني عاصفة من الغربان لم أشهد لها مثيلاً في حياتي كلها إلا في فيلم (الطيور) لمخرج الرعب العالمي (هيتشكوك) تمتمت: “يا خفيّ الألطاف نجنا مما نخاف”.

سألت قائد الحرس الجمهوري آنذاك، (حامد مدرم) عن هذا الغضب السماوي، فرد عليّ ساخراً: “أنا أخو (عبدالنبي) مالك خايف..(شع) الغربان ما هي أقوى من الإنجليز ذي طردناهم بالرصاص المذلق”.

قلت له: “أنا لا أسألك عن الحرب يا (جنرال) فقد خلّفناها وراءنا، أنا أسألك كيف أسجل المؤتمر الصحفي للرئيس وسط أصوات هذه (الأوركسترا) الغربانية التي تخرق الآذان؟”.

المهم عقد المؤتمر الصحفي على خير ما يرام وشربنا القهوة بالزنجبيل وعبرنا عاصفة الغربان التي لم تهدأ ولكن في طريقنا للخروج من دار الرئاسة هذه المرّة، وحين وصلت إلى الإذاعة وكان الجاوي بانتظاري ومعه اثنين من الفنيين فتحنا التسجيل فإذا ينعيق الغربان قد غطّى على كل شيء إن هي إلاّ حشرجات بشرية مكتومة لم نفهم منها شيئاً.

قلت للجاوي: “ما العمل؟” قال: “شل نفسك روح واتخبا لك أربعة خمسة أيام لما أتصل بك، شوف صاحبنا (يقصد الرئيس) ما يعرف المزاح”، وحذّرني: “مش في بيتك، شوف لك بيت ثاني وإلاّ ما بايفهموا أصل الموضوع إلا وجلدك قد وصل المدبغة” من يومها أصبح بيني وبين الغربان ثأر… وأيّ ثأر.

اترك تعليقًا