تجلّى (يوم الغربان) الذي أشرت إليه في زاوية الأمس عن أسرارٍ عجيبة، أولها أن غربان (عدن) قد اتخذت من منطقة (دار الرئاسة) مقراً مركزياً لها وذلك بسبب كثافة الأشجار هناك، الأمر الذي كشف عن موت الأشجار في بقية أرجاء العاصمة بسبب الإهمال نظراً لانشغال الجميع بالأعمال الثورية بما في ذلك عمّال البلدية.
وثانيها أن الغربان قد توحشت بسبب انعدام الأكل الفايض عن أرزاق الناس والذي تعوّدت عليه في فترات سابقة الأمر الذي دفعها للقضاء على سائر أجناس الطيور الأخرى، لأن المجاعة وصلت مستوى (قطع الرأس ولا قطع المعاش)… و (يا روحي ما بعدك روح).
وثالثها أنه في (يوم التسجيل المشؤوم) كان أحد الوافدين الجدد على دار الرئاسة من الأطفال الذين لا يعرفون طباع (غربان المدينة) قد أمسك بأحد فراخ الغربان الصغيرة وأخذه معه بـبراءة ليلعب به داخل القصر وكان ذلك سبب (عاصفة الغربان) التي لم تنته إلاّ بإطلاق سراح الطفل الغرابي الأسير بعد تدخل من قائد الحرس الجمهوري آنذاك (حامد مدرم).
ورابعها أن الرئيس سالم ربيع علي قد تفهم (الظروف الموضوعية) لفشل التسجيل الإذاعي، فلم يأخذ على خاطره ولم يستمع إلى أصحاب (نظرية المؤامرة) التي كانت رائجة آنذاك، وبذلك سلمت من العقاب، وعدت إلى عملي معززاً مكرّماً. وقد اغتنم عمر الجاوي المدير العام للإذاعة والتلفزيون أول فرصة سنحت ليثبت للشامتين أن اختياره لي كمدير للإذاعة لم يكن من باب قصر النظر، ولكنني – مع الأسف الشديد- خيّبت ظنه دون قصدٍ مني، وإنما هو سوء الحظ واضطراب الأوضاع الثورية العربية آنذاك.
وتفصيل ذلك أن الرئيس سالم ربيع علي قرر القيام بأول زيارة له خارج البلد إلى ليبيا بدعوة من العقيد معمر القذافي لحضور الاحتفالات بمرور عام على جلاء الأمريكان من قاعدة (هويلس).
وقد ذهبنا في طائرة مدنية كانت متجهة إلى القاهرة حيث تم وضع ستارة تفصل الرئيس والوفد (17 شخصاً) عن باقي الركاب وكان من ضمن الوفد وزير الخارجية آنذاك علي سالم البيض الذي أجهد نفسه طوال الرحلة محاولاً إقناع الرئيس أن الأردن بالنسبة لفلسطين وهي بمثابة فيتنام الشمالية بالنسبة لفيتنام الجنوبية، وأن من الضروري أن يكون هذا العمق الاستراتيجي بيد قوة ثورية ليمكن تحرير فلسطين.
وكان الرئيس يهزّ رأسه دون إيجاب أو نفي، وقد حاولت مراراً التدخل بناء على تحليلات كتبها آنذاك محمد حسنين هيكل تفند هذه النظرية، ولكن الرئيس لم يكن يدعني أسترسل، وقد علّمتني الحياة بعد ذلك أن حلمه معي كان عظيماً، لأنه أساساً لم يكن يعرف من أنا ولا ما هي مهمتي في الوفد، وقد أبلغني بذلك المرافق العسكري أحمد صالح حاجب الذي سحبني إلى آخر الطائرة وهو يقول لي: “يا داخل بين البصلة وقشرتها…الخ” وقد فهمت الرسالة.
أما كيف فشلت مهمتي فشلاً ذريعاً، فذلك ما سوف أفصّله غداً