“قاضية في البار” كادت تكون القاضية – 23

أصبح الاستقطاب عنوان الحياة السياسية في عدن أوائل السبعينات وأخذ العنف بصورة متزايدة يتصاعد ليصبح عنواناً للاستقطاب وتحيز الناس بين أناس يعملون تحت سطح الأرض بدهاء وهدوء، وقد اندفع الرئيس (سالمين) على رأس التيار الأول، وكان رجلاً مقداماً لايبالي العواقب، ولكن مشكلته أنه كان يسمع كثيراً ويتصرف بناء على ذلك السماع، لذلك فإنه كثيراً ما وقع في مآزق كان في غنى عنها.

من ذلك أنه نقل إليه إن الكثير من المسؤولين والموظفين يستخدمون سيارات الحكومة لأغراضهم الخاصة، فاحتشد ومن حواليه لعدة أيام يقفون في مفارق الطرق ويقوم هو شخصياً بمراجعة دفاتر حركة السيارات وتوقيع العقوبات على المخالفين، وكان ذلك الأمر حديث المدينة. ومن ذلك أيضاً أنه نقل إليه ذات يوم أن (مساوي أحمد) هاجم عبر مقال صحفي تجربة التعاونيات الزراعية، فأمر بإحضار (مساوي أحمد) إلى أبين لتقديمه أمام محكمة شعبية يقوم عليها المنتفعون بالإصلاح الزراعي، وليصدروا في حقه الحكم المناسب. وجيء بـ (مساوي أحمد) آخر وهو سائق بسيط في وزارة الزراعة ولا علاقة له بالكتابة، وكاد المسكين أن (يفطس) من الخوف وهو يقسم الإيمان أنه لا علاقة له بالكتابة، لأنه كما قالها على استحياء (أمي). أما (مساوي) الأصلي الذي كان أحد نواب وزير المالية في الشمال أيام السّلال، فقد انشقت له الأرض وابتلعته بعد أن سمع عن غضب الرئيس ولم يظهر إلا بعد أيام تبين لـ (سالمين) خلالها أن المقال لا يهاجم التجربة وإنما يجمّلها بالنقاش وتقليب وجوهها الحسنة، وكان (مساوي) الأصلي أذكى من أن يقع في هذه (الورطة) وهو الفقيه المتضلع خريج المدارس الدينية الذي لم يتحول إلى الماركسية إلاّ على كبر. ولا ينافسه بصورة عكسية في ذلك إلاّ صديقنا (صالح حليس) الذي كان (يمون) على الرئيس الكوري الشمالي (كيم ايل سونج) كأنه توأمه، فكان يسوّد صفحات جريدة 14 أكتوبر بمطوّلات لا يقرؤها أحد. هي خليط من أفكاره وأفكار (كيم ايل سونج) ولكن (حليس) انتها به المطاف بالعودة إلى الهدى حتى أصبح سكرتيراً شخصياً للشيخ عبدالمجيد الزنداني. في تلك الأيام كان الخارج من بيته مفقود، والعائد مولود حتى إشعارٍ آخر، وقد جرى إعدام زميلنا الصحفي أحمد العبد وسجن زميلنا عمر با وزير، وتم اعتقال الزميل جميل مهدي بسبب سوء حظ قاده إلى كافتيريا فند الصخرة بالتواهي  (Rock Hotel) فالتقى مع سائح والتقط معه صورة كانت القاضية في قصة مضحكة مبكية، وقد تشائمت من تلك (الكافتيريا) لأن أحد الصحفيين اللبنانيين طلب مني مساعدته لإجراء حديث مع أول قاضية جرى تعيينها في عدن، (حميدة زكريا) وكان ذلك حدثاً وأي حدثٍ آنذاك، فاتفقت معها على إجراء اللقاء في مكان هادئ بكافتيريا (الروك هوتيل) فما كان من صاحبنا الهمام سوى نشر المقابلة تحت العنوان التالي: (لقاء في البار مع أول قاضية في عدن)… والله يسامحه البعيد، فقد سبب لي صداعاً لم أشف منه إلى اليوم، فقد ركبني الخوف من أن أمثل يوماً أمام القاضية، فتكون القاضية.

اترك تعليقًا