مع شيوع الاستقطاب الذي أشرنا إليه بيوم أمس في عدن السبعينات، والمساعي الحميمة لأصحاب (فوق) وأصحاب (تحت) لكسب الأنصار، أخذت تظهر على الساحة مسمّيات وظائف وهمية، وأصبح أولئك الذين يدورون في الشوارع وتحت (آباطهم) الملفات الغامضة رموزاً لمرحلة قادمة سينهار فيها الجهاز المدني برمّته.
أعجبت عمر الجاوي المدير العام للإذاعة والتلفزيون فكرة (الوظيفة الوهمية)، فاخترع بعد ضغوط عليا هائلة لمراقب الإذاعة الموقوف عن العمل (ضرار عبدالوهاب) والذي كان (يلعب على الحبلين) وظيفة مراقبة البرامج.. ولكن… بعد إذاعتها.. كيف ذلك يا (عم عمر)؟ نحن نحتاج إلى رؤية استراتيجية و (ضرار) عقل كبير حرام نخسره في تفاصيل العمل اليومي، ولو قدم كل شهر تقريراً واحداً يكفي… ويضيف عمر الجاوي “أما بيني وبينك.. بس لا تقول… خلي أبوه يغرق بين الأشرطة… لو خليناه سايب يا بن النقيب ما تدري فين ومن با يلدغ…”.
أخذ الإحباط يصيب الجاوي شيئاً فشيئاً، وكان يطالب بمبنى للإدارة العامة للإذاعة والتلفزيون، ولإنشاء أستوديوهات جديدة دون جدوى، فكلما أفرغت الشركات التي كانت عاملة في عدن أحد المباني سرعان ما تستولي عليه جهة متنفذة، لذلك فقد قرر استخدام أسلوب الإغارات الخاطفة الذي كان قد اخترعه محافظ لحج (عوض الحامد) والذي يغير تحت جنح الظلام وأحياناً في وضح النهار من عاصمته (الحوطة) على عاصمة البلد (عدن) لأخذ ما تيسّر من آلات ومعدات وحتى الأعلاف (المشوّنة). وهكذا قمنا بغارة على أشهر مبنى في العاصمة كانت تحتله شركة (P&O) (البينو) العالمية والتي كان رحيلها آيذاناً بانتهاء الدور العملي لميناء عدن، وأخذنا منه طابقين، كما قمنا بغارة على الميناء لأخذ ست سيارات روسي (جيب) من أجل إرسالة لوزارة الدفاع التي (هنّت) بها واعتبرتها هدية للإذاعة بعد مناورات الجاوي الكلامية البارعة.
أصبح الجاوي حائراً في توضيح الوضع حتى جاءني ذات يوم أحد أقاربي الساكنين في الأرياف (قاسم ناجي صالح) فسألة الجاوي: “كيف تشوف أحوال البلاد يا والد؟” ردّ عليه: “شوف يا ابني… أنا (متسبّب) على باب الله، وعندي (صندقة) صغيرة في رأس جبل بيافع، وأمس من بعد صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وأنا أتنقل من (طابور إلى طابور) فقد كان يوم توزيع (الشمبلات) (النعالات البلاستيك) وقد وزّعوا علينا من واحد في طابور (الخساف) من اثنين في طابور (السوق الطويل) ومن ستة في طابور (القطيع)… وحسب تفكيري وأنا رجل أمّي ما أفهم في السياسة إن عدن لوحدها فيها (3) حكومات أحسنها حكومة (القطيع) أم ستة (شنبلات) وأنت أحسب كم حكومة في باقي البلاد.. هذا هو الحال يا ابني…”. ضحك الجاوي حتى اغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول له: “الآن حلّيت فزّورة اللي أكلت مخي يا والد…”.
وظل الجاوي بعدها يسألني دائماً: “وين صاحب حكومة (القطيع)؟ سلّم لي عليه الله يرضى عليك”.