أوضاع قاتلة – 27

شهدت السنوات الأولى من سبعينات عدن عمليات الهروب الكبير للناس… عشرات الآلالف يرمون بأنفسهم للتهلكة عبر الجبال الوعرة والصحراء المحرقة، وبالتحايل على المنافذ البرية التي تتحكم فيها القوات المسلحة، وكان السجن والتعزير والتشهير نصيب من يسقطون في فخاخ حراسات الحدود.
ولم تفكر الدولة أبداً في أسباب ودوافع ذلك النزيف وإنما اعتمدت سياسات انتقام جماعية، حتى وصل الحال في بعض المناطق الريفية أن زوجة الهارب وأطفاله يقتادون إلى الحدود مع الشمال ويتركون لمصائرهم بحجة إلحاقهم بعائلهم لكي تسودّ الدنيا في عينيه فلا يستطيع الهجرة بحمله الثقيل.
ثم تنبهت الحكومة فجأة إلى أن بقاء العائلات هو أحد مصادر العملة الصعبة، فتشددت في عدم المغادرة إلاّ في حالات نادرة جداً، وبضمانات من مقيمين إذا تخلّف مضمونهم يودعون في السجون حتى عودته.
وقد انشغل الناس بهذا البلاء، ونشأت تجارة رائجة لتهريب البشر مقابل مبالغ نقدية، يجمعها أناس مفلسون، أو مقابل أشياء عينية كالبيوت والسيارات أو العفش وما إلا ذلك.
طفحت مدن الشمال بالهائمين على وجوههم القادمين من الجنوب، وكتب الشاعر الكبير عبدالله البردوني قصيدته الشهيرة التي أصبحت علماً على المرحلة ومنها:
جنوبيون في صنعاء… شماليون في عدن… يمانيون في المنفى… ومنفيون في اليمن.
أصبح الناس بدلاً من البكاء يضحكون على أنفسهم من أنفسهم، ويتسامحون حتى مع من يضحك عليهم، وفي إحدى الصباحيات جاءني الفنان الكبير أحمد قاسم يسألني عن مفتاح شخصية (الجاوي) المدير العام للإذاعة والتلفزيون.. قلت له: ليش. قال لي: مالك دخل، باتشوف بعدين. قلت له: وحدوي حتى النخاع، ومحبّ للتراث حتى الهوس. وكان (الحمنه) –كما يسمّيه أهل عدن- يريد صرف بعض الأجور التي عفى عليها الزمن… ضبط حاله، وهو بالمناسبة ممثل قدير وله فيلم فاشل مع محمود المليجي وزيزي البدراوي، ولكنه في الحياة لا يعلى على تمثيله.. دخل على الجاوي وقال له: “يا أستاذ عمر، أنا أعمل منذ أشهر عديدة على (سمفونية) تستلهم لحن أغنية (وا مغرّد بوادي الدور) (أقدم أغنية تراثية يمنية) لتعكس عظمة اليمن الواحد، وتجسد تراثه المشرق” أظهر الجاوي الفرح بهذا التحوّل العظيم عند (الحمنه) وأمر بصرف جميع الأجور، وعندما خرج قال لي: “مسكين أحمد وضعه صعب، وهو يعتقد أني صدقته، أوضاع الناس باتقتلني يابن النقيب” .

اترك تعليقًا