ثمار الأيام السبعة المجيدة – 33

أثمرت الأيام السبعة المجيدة التي اجتاحت عدن في النصف الأول من سبعينات هذا القرن كريح صرصرٍ عاتيه نهجاً (نضالياً) جديداً كان من نتائج (الانتفاضات) و (لجان الرقابة) و (لجان الأحياء) و (المبادرات) و(عسكرة) الحياة.
أما (الانتفاضات) فجرت في جميع أنحاء البلاد بتحريض من الدولة وتحت إشراف مختلف الأجهزة الثورية لمصادرة (الملكيات) الخاصة دون قانون بحجة أن جماهير الكادحين استعادت حقوقها التاريخية.
و (لجان الرقابة) تم تنظيمها في مختلف دوائر العمل، من بسطاء العاملين للإشراف والمحاسبة، وفرز قوى (الثورة المضادة) وكما ذكر لي أحد أعضاء المكتب السياسي، فإن هدفها الأساسي كان إهانة الوزراء وكبار المسؤولين ومدراء العموم، وقد وضعت لجان الرقابة فعلاً فوق كل قانون أو نظام، وطالت كل رقبة وإن كانت بطول رقبة الجمل.
بالنسة للجان الأحياء فتشرف على كل صغيرة وكبيرة في مناطق السكن لدرجة أنك لن تستطيع الحصول على (كيلو) من السكر لأسرتك إلا بموافقتها وبإذن منها وهي تراقب سلوكك السياسي والاجتماعي في منزلك وتقومه بجانب الحراسات الليلية للأحياء ومراقبة الزوار والاستفسار عنهم.
فيما يتعلق (بالمبادرات) فهي أعمال (تطوعية) ولكن إجبارية خارج أوقات العمل، كانت نوعاً من الشقاء والبلاء ولم تحصل منها أي فائدة تذكر سوى إلهاء الناس عن أوضاهم المتردية وإنهاكم مما حوّلهم إلى أشباح.
و (العسكرة) كانت شكلاً من أشكال تطويع المدنيين وكان المرء يشعر بالرثاء للنساء العاملات وهن بالـ (كاكي) يرزحن تحت الرشّاشات في شمس عدن الكاوية كل صباح.
تفكك الجهاز المدني وأصبح القانون في ذمة التاريخ، ولا أنسى ليلة القبض على (فريد بركات) وهو من (عتاة) المثقفين لو صادفته لفررت من كلماته وقد ملئت ربعاً، لأنه كان يحمل ما بين خمسة إلى ستة كتب تحت إبطه الأيمن، ومثلها تحت إبطه الأيسر، ويسير و (البايب) يتدلى من فمه يكز عليه بأسنانه، بينما كفه مشغوله بقبضة مفاتيح وملحقات (البايب) الذي لا أدري كيف كان يدبّر له التبغ في تلك الأيام العمياء، وفريد – للعلم- وسيم قسيم ومحاور لا يشق له غبار، يكتب في الصحافة شاعراً وناثراً، ويناظر في الإذاعة، وهو وجه تلفزيوني مقرّر، لا ينافسه في كثرة الظهور سوى الأخ (ثريّا منقوش). أما لو ركبت معه سيارته (الفولكسواجن) التحفة، فإنك لا تدري كيف وأين تجلس من أكداس الكتب المتناثرة في كل مكان. كان فريد يعاني من (الطوسان) وهو الذهول والنسيان بلهجة أهل عدن، وقد كلفته وزارة الإعلام مسؤولية الإشراف على مسرح ميداني بميدان التاكسي في عدن تؤدى عليه رقصات شعبية تحضيراً لمهرجان الشباب العالمي الذي كان مقرراً انعقاده آنذاك في برلين الديموقراطية، وكانت بلادنا قد انهمكت في ترتيبات واسعة وصاخبة لهذا المهرجان، لا أبالغ أبداً إذا قلت أنها تشبه الاستعداد لحرب شاملة ماحقة لا تبقي ولا تذر.
المهم أن (الرفيق) فريد (طاس) ونسي إرسال الميكرفونات ومعدات الإضاءة للمسرح المذكور الذي كانت فرقة (سالمين) من المحافظة الرابعة (العوالق وشبوة) قد حضرت لتقديم برنامجها عليه، وحين تذكر فريد ذهب إلى هناك متأخراً، استلمته الفرق وشحنته إلى معسكر (فتح) الشهير حيث نصبت له محاكمة ميدانية أصدرت عليه حكماً بالإعدام، وقد أجرى عبدالله باذيب مسؤوله الحزبي، بعد أن علم بالأمر من الفنان محمد عبده زيدي اتصالاً بالرئيس علي سالم ربيّع الذي ردّ عليه بأنه لا يتدخل فيما يقرّره (الشعب) وبعد أخذ وعطاء ووساطات طائلة طلب الرئيس من الفرقة تأجيل الإعدام حتى الصباح، وقد أطلق سراح فريد بعد أن كتب وصيته وفقد عشرة كيلوجرامات من وزنه، وكانت القصة رسالة واضحة لأصحاب الألسن والكلمات، وكان يمكن ببساطة أن تكون ممهورة بالدم.

اترك تعليقًا