الوطن – الصيانة والإهانة – 40

حدثني أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني بأنه ذهب في سنوات عدن السبعينات العجاف يشتكي للرئيس شحة التبرعات من قبل بعض الذين صنفوا كتجار آنذاك لمشروع طريق ريفي، فقال له الرئيس: “ألبسوهم ثوباً غير ثوبهم…” فلمّا استوضحه أكثر قال: “اتهموهم بالعمالة والخيانة وسترون كيف يأتون راكعين يعرضون أموالهم بينما أنتم تتعززون”.

ويضيف محدثي: أيقنت منذ تلك اللحظة إننا فقدنا الاتجاه وإننا نسير في نفق مظلم مخيف، وكان (علي شيخ عمر) الذي كان في تلك الفترة مديراً للأمن العام قد ذكر في إحدى الجلسات أن الرئيس طلب منه أن يجد لنفسه حلاً في قضية المسجونين لأنه (أي الرئيس) ليس مستعداً أن يصرف من أموال الكادحين لإطعام وإيواء عناصر الثورة المضادة.
يقول (علي الشيخ) شعرت أنه صفعني على وجهي، وأنني وقعت في مأزق، فقلت له، أنا لا أستطيع اتخاذ قرار بتصفية أي مسجون وأنا أفهم إننا دولة ولدينا قضاء ومحاكم، فردّ عليه الرئيس بالقول: “أنا ما يهمني كل هذا… عليك أن تتصرف”. ويبدوا لي أن هذا الموقف وأشباهه هو الذي دفع على شيخ عمر وكثيرين من مسؤولي تلك الفترة إلى مغادرة البلاد وتفضيل المنفى على الوطن، لأنه لا معنى لأن تكسب الدنيا وتخسر نفسك. وفي تلك الفترة واجه الرئيس سالم ربيع علي موقفاً مأساوياً على المستوى العائلي فقد أمر بتصفية واحد من آل الجفري كان يسكن في أبين وكان الرجل في غاية الحذر والحيطة يبيت في أماكن مختلفة لأنه متوجس ويستشعر الخطر، وصادف أن شخصا آخر يحمل الاسم نفسه يعمل في الإصلاح الزراعي في لحج ولكنه يسكن في أبين أيضاً وقد وقع لسوء حظه في أيدي المكلّفين بتصفية الجفري الأول ولم يكونوا يعرفوه واختطفوه وقتلوه ثم اتضح لاحقاً أنه ابن خالة الرئيس، وكانت مناحة مأساوية في بيت العائلة مصداقاً للأثر: من حفر لأخيه حفرة وقع فيها.
لقد أصبح حالنا في تلك الأيام ينطبق على قول الشاعر: “رب يومٍ بكيت منه… فلمّا صرت في غيره بكيت عليه”. فلم يكن ينقصنا من هم جديد سوى قانون (صيانة الوطن) الذي ينصّ على عدم الجلوس أو الحديث أو الاتصال التليفوني مع أي أجنبي تحت طائلة المحاكمة والسجن والملاحقة، حتى أن الطالب ممنوع من الحديث مع معلّمه العربي خارج الفصل، وقد جنّدت عشرات الفرق لمراقبة الناس في الشوارع، وقد عبّر ذلك القانون السيء الصيت عن عدم ثقة السلطة بنفسها وبشعبها وبمن تستقدمهم بنفسها من الأجانب والعرب وبذلك كان القانون حقاً وصدقاً (إهانة للوطن) وليس صيانة له.

اترك تعليقًا