اعتقال طرموم – 41

في صبيحة أحد أيام أوائل سبعينات عدن اتصل بي عمر الجاوي تليفونيا طالباً مني أن نذهب سوية إلى وزارة الداخلية.. خير إن شاء الله؟ نجري محاولة للإفراج عن أستاذك عمر سالم طرموم المسجون من دون ذنب. وما الطريقة؟ في ذهني صفقة ستطّلع عليها في وقتها.

ذهبنا وقابلنا محمد صالح مطيع وزير الداخلية آنذاك ووكيل الوزارة عبدالعزيز عبدالولي الذي كان أحد تلاميذ طرموم في المعهد العلمي الإسلامي بعدن وكان الاثنان أقرب إلى التفهم والتفاهم بل وربما التعاطف، وقد انتهى (مطيع) مقتولاً بتهم لم يظهر عليها أي دليل حتى اللحظة، والثاني عبدالعزيز يقال أنه انتهى مغدوراً بعد نفيه إلى إحدى الدول الاشتراكية،  وكان أحد نجوم الحياة الاجتماعية في عدن، وقد قصّ عليّ عدد من الفنانين منهم أحمد فتحي وسالم بامدهف قصصاً كثيرة عن تعاطفه معهم في تلك الأيام التي كان شعارها: أنا ومن بعدي الطوفان.

المهم أن (الجاوي) دبج مرافعة بليغة حول وطنية عمر سالم طرموم الذي بنى سجن (لحج) حجراً حجراً على ظهره كعقوبة له لمجاهرته بالحق في حضرة السلطان، فكيف لمثل هذا الرجل أن يسجن في عهد الثورة الموجهة ضد أعدائه، وكانت الشبهة هي أن للرجل صلات بتنظيمات إسلامية، ولم تكن مثل هذه التنظيمات قد بلغت ما بلغته اليوم.
أما الصفقة التي وافق عليها الوزير والوكيل حفظاً لماء الوجه فتفضي بأن يقوم عمر طرموم بكتابة تاريخ الحركة الوطنية وأن يلزم بيته لا يزور ولا يزار، وفعلاً تم الإفراج  عنه، حيث دُبّر أمره بعد ذلك وغادر إلى الحديدة في الشمال.

لقد كان عمر سالم طرموم محظوظاً لأنه شخصية معروفة، فقد شهدت في أحد تلك الأيام إحدى المحاكمات (النادرة) لمزارع بسيط من أبناء القبائل الشمالية، ولم تكن هناك أية  قضية ضده سوى أنه وقع تحت الاشتباه ولم يكن يعرف لنفسه هدفاً، وحين سئل في المحكمة ما الذي جاء بك إلى عدن أجاب ببساطة: بلادي وجيت أشوفها… هكذا صنفت وجيت.. ومن سؤال إلى سؤال حتى سأله القاضي فيما إذا كان قد شارك في الحرب الأهلية في الشمال التي دارت بين عام 1962 و 1970 فأجاب بالإيجاب، فقال له مع أي جانب، قال: والله أنا مع قبيلتي، مرة مع الملكيين ومرة مع الجمهوريين حسب التساهيل، قال القاضي: خلينا من المرة حق الجمهوريين، وركز معي على مشاركتك مع الملكيين لأن معنى ذلك أنك مرتزق ضد الوطن. قال القبيلي: والله يا أخي الكل كان يقاتل الكل وقد اتفقنا وتسامحنا وأنا الآن على باب الله أدوّر على رزق لعيالي، قال القاضي وهو يضحك: أنت مش على باب الله يا (قبيلي).. الله جابك على باب الثورة. ظننت أن الرجل سيخرج (براءة) لا محالة، فإذا بالمحكمة بعد التداول تصدر حكماً بالإعدام.

وللمقارنة فقد حوكم أحد رجال القبائل في الشمال بتهمة التحريض على إسقاط الوضع فلما استوضحه القاضي اعترف بما نسب إليه ولكنه استدرك بأن ذلك (كلام قات) وكلام القات في اليمن لا يودّي ولا يجيب، وكان القاضي حصيفاً، فأفرج عنه مع تنبيهه من مخاطر كلام القات وفلتان اللسان ولو وقع في يد قاضينا لكان أصبح في خبر كان.

اترك تعليقًا