أسفر المؤتمر العام الخامس للجبهة القومية الحاكمة في عدن العام 1972 عن توازن هش كسب فيه اليسار المتطرّف شرعية حزبية وكسب فيه اليسار المعتدل حق الوجود والتعبير، وبذلك التقط الجميع أنفاسهم إلى حين.
وقد جرى انتخاب الرئيس سالم ربيع علي أميناً عاماً مساعداً وبذلك اقتحم القلعة الحزبية بقوة من موقعه الجديد معززاً بذلك اختراقاته السابقة المثيرة للجدل من موقعه في رئاسة الدولة.
وللحق فإنه ما من أحد كان باستطاعته أن يلجم اندفاعات الرئيس وعنفوانه وفرديته وقد بلغ به اليقين بقدراته أن لم يعد يقيم وزناً لأحد فبسط ظله على الجميع دون منازع.
ومن عجب أن الذين سعوا لتنصيب سالم ربيع علي للرئاسة كانوا يظنونه مجرّد فزاعة طيور لا يهشّ ولا ينشّ، أو أنه في أحسن الحالات مجرّد جسر العبور بين عهدين وقد كان هؤلاء هم أول من شرب كؤوسه المرة بعد أن تحوّل إلى كابوس يهزّ مناماتهم ويقلق أحلامهم.
ومن طبيعة هذه الفردانية المتطرفة أنها قابلة للتحول في أية لحظة وأي منعطف لأنها تقوم على قناعات تعقبها اندفاعات لذلك فإن كثيرين قد رددوا لزمن طويل أن الرئيس وصل إلى أعتاب تحول تاريخي يتسم بالواقعية والاعتدال وأنه قد عبّر عن ذلك في اتجاه لتحسين العلاقات مع دول الجوار إلا أنّ مقتله الفاجع قد حال دون ذلك بل ربما أن مقتله كان بسبب ذلك.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الرئيس قد عرف عنه بشكل لا لبس فيه نظافة اليد والابتعاد عن مظان المتع والملذات التي أخذت كوادر متزايدة تنغمس فيها ومن هنا فقد كان سوطاً لاسعاً على ظهور أولئك الذين اعتقدوا أن من حقهم أن يتنعموا جزاءً وفاقاً لما قدموه في ساحات النضال.
كان الواقع في تلك الأيام يقدم قراءاته بأفضل مما تقدم النظرية، ذلك أن كتاب الواقع لا يختلف عليه الناس إلى من باب المماحكة أما النظرية فلها قراءات عدة على المستوى التطبيقي والجدلي، وقد أثبتت الممارسة عبثية التجريب الاقتصادي ومأساوية التصنيف الاجتماعي وهشاشة البنية النظرية التي تحول العمل السياسي من خلالها إلى تجمعات قبلية تحت لافتات ماركسية.
وقد أدى فرز القوى خلال المؤتمر العام الخامس وعقبه إلى تغلب مقاييس الصراع على مقاييس الاجتهاد فأصبح حق البقاء هدف الأهداف فقضى بذلك على ما تبقى من الطهارة الثورية التي تحولّت إلى دسائس متطاولة طبعت مراحل بكاملها ولم تخلف وراءها سوى الرماد.