سياسة الجوكر – 51

يبدو أنني أطلت في هذه السلسلة من (دفاتر الأيام) عن عدن السبعينات. وأشعر أنّ ذكرياتي المباشرة قد أخذت في النضوب، أما ذاكرة التاريخ فذاك شأن آخر له رجاله وكتابه ومصادره وتحقيقاته وتحليلاته، وليست كتابتي من ذلك في شيء، إن هي إلا ترجيعات ذاكرة مترعة بالهموم وأصداء معاناة ترسبت في أعماق الروح، وكان لا بد لها أن تصعد يوماً إلى السطح وقد تخلصت من الشوائب وبرئت من الجراح ومالت إلى المرح تقتنصه من فيض المرارة.

لقد مضى أبطال تلك المرحلة بحسناتهم وسيئاتهم، ببطولاتهم وبضعفهم الإنساني بمعرفتهم وبجهلهم، بطموحاتهم وانكساراتهم، وكانوا في كل الأحوال نتاج مرحلة عاصفة ووضع اجتماعي صعب في وطن منقسم كما لعبت الظروف الإقليمية والدولية دوراً كبيراً في تعقيد الأوضاع، وزاد الطين بلة اعتناق العقيدة الماركسية التي أصبحت مثل سرير (فيدياس) في الميثولوجيا اليونانية.

وقد تلبست العقيدة الماركسية أوهام بدائية، وأسعافات ذاتية، وعدالة ظالمة، وأعراف قبلية، وعداءات لا تعرف من أين تنبع وإلى أين تصب ،فأصبحت العقيدة عصيدة يمنية  حيّرت الألباب وأحرقت أيدي الآكلين، حتى أضحت مسألة البقاء والطفو على سطح الحياة السياسية فناً بالغ الحساسية يحتاج إلى مهارات الحواة وبصيرة المنجمين، وقد عبّر عن ذلك أحسن تعبير وعلى البداهة على سالم البيض عندما سئل في تليفزيون أبوظبي في العام 1990 إذا لم تخني الذاكرة عن مفهومه للسياسة وحظوظه منها فقال: “السياسة مثل لعب الورق والشاطر فيها هو الذي يشهر (الجوكر) في اللحظة المناسبة”، مضيفاً أنه دائماً يحتفظ بـ (الجوكر) في جيبه.

ومن الواضح أن (البيض) الذي لم يستقر في أيّ منصب قبل العام 1986 سوى عدة أشهر هو خلاصة هذا المزيج من البداوة العلمانية، من الإيمان النظري بالعمل الجماعي والإصرار العملي على التفرد بالقرار، من القراءة في قوانين أكثر النظريات وثوقاً بالحتميات إلى التسليم بنظرية (الجوكر) التي من الواضح بالتجربة أنها لا تستند إلى أي أساس.

وللحق فإن التجربة التي امتدت لأكثر من ربع قرن قد أنجزت مهام كانت تبدوا في عداد المستحيلات وفي مقدمتها توحيد الجزء الجنوبي من اليمن الذي كان يضم أكثر من عشرين سلطنة وإمارة ومشيخة لا تربطها أية وشائج، كما أن المد التعليمي والتأهيلي الذي أسهم الاتحاد السوفييتي بنصيب وافر فيه قد نقل المعرفة إلى كل بيت تقريباً فارتفع الوعي الذي أسهم بدورٍ كبير في تأجيج الاختلافات نظراً لعدم وجود قنوات طبيعية ومدنية تستوعب التعددية التي هي من طبيعة الحياة.

اترك تعليقًا