تواصلاً مع زاوية الأمس فقد غادرت مطار عدن في الأيام الأخيرة من العام 1973 برفقة الأستاذين الشاعرين محمد سعيد جرادة ومحمود الحاج، وبذلك أكون قد أكملت أربعة أعوام تقريباً بالوفاء والتمام منذ تخرجي من الجامعة وحتى مغادرتي النهائية وهي السنوات التي لامستها فيما كتبت خلال الأيام المنصرمة، وفي تقديري أن مشاهداتي وانطباعاتي ليست سوى قطرة من مطر أو شعرة من جلد كثيف.
ولرسم (بانوراما) لذلك الزمن العاصف المليء بالإثارة والتحولات وظلال الأبطال الذين كانوا يتدفقون على المسرح كالأقدار، ويغادرون سريعاً وقد أصبحوا أثراً من الآثار، يلزم استنطاق آلاف الشهود الذين أصبح أكثرهم الآن في زوايا الأرض الأربع بعد أن تفرقوا (أيدي سبأ) وباعد الله بين أسفارهم جزاءً وفاقا.
وإذا كان هذا القصور وذلك التعقيد خلال هذه الفترة الزمنية الوجيزة (4 سنوات) فكيف بتجربة استثنائية امتدت من العام 1967 سنة الاستقلال حتى العام 1990 سنة الوحدة ما سبق ذلك من سنوات كفاح مسلّح مجيد وباسل ضد الاستعمار الإنجليزي وما أعقب ذلك من إسقاطات وتوابع وزوابع كادت أن تزيل وحدة اليمن.
ما أن استقرت الطائرة في الجو واطمأن الركاب إلى أن أحداً لن يستدعى من داخل الطائرة حتى أخذت ألقي نظرة وداع على أحب المدن إلى قلبي وأكثرها التصاقاً بوجداني، تلك المدينة الأسطورية التي طالما انبعثت من رمادها كأنها العنقاء أو طائر الفينيق، المدينة التي كان يغنى لها اليمنيون كأنها فتاة معشوقة حسناء فيقولون: ” عدن… عدن يا ليت عدن مسير يوم… أسير فيه ليلة ما أرقد النوم”.
عدن التي أطلق عليها الشعب لقب (أم المساكين) يأتيها فقراء اليمن وفقراء الهند والسند وفقراء شر ق أفريقيا فتطعمهم من جوع وتؤمنهم من خوف، حتى أن الشاعر الشعبي الذي دخل عدن للمرة الأولى في الخمسينات فرأى الإنجليز وأحياءهم السكنية، وطائفة (البهرة) بسوقها المسمى باسمها، والطائفة الفارسية بمعبدهم الواقع في (الطويلة) ثم الهندوس (البانيان) وحاراتهم المتعددة، وحي الصومال في (القلوعة) و (الشيخ اسحاق) وأحياء الهنود المسلمين وأخيراً حارة اليهود ومعبدهم ومدرستهم، فحار في هذا الخليط الأممي المتعايش والمتنافر فقال: “عدن… عدن… يا بندر الهنودِ… ومن دخل مسلم خرج يهودي”.
لمح الأستاذ الجرادة دمعة في عيني فقال يشجعني: “ألم تسمع بقول الزبـيري: خرجنا من السجن شمّ الأنوف… كما تخرج الأسد من غابها… نمرّ على شفرات السيوف… ونأتي المنية من بابها”.
قلت له: “يا أستاذ أيّ أنوف وأي شمم والله إننا نخرج كما الثعابين من جحورها… لقد كان لدى الزبيري ورفاقه قضية محددة وهدف واضح أما نحن فقد نسينا أو أُنسينا ما هي القضية فأضعنا الطريق إلى الهدف وها نحن نكاد نضيع الطريق إلى الهوية.