تواصلاً مع زاوية الأمس هبطنا في مطار صنعاء أنا وزميلي محمد سعيد جرادة ومحمود علي الحاج في يوم شتائي بارد أواخر ديسمبر 1973، وأخذنا نرتجف نحن القادمون من مدينة عدن الدافئة حيث بإمكان السباحة على شواطئها الجميلة في هذا الفصل من العام. وعلى كل حال، فلم يكن لدينا من الملابس ما نتقي به هذا القرس، ولكن لحسن الحظ فإن صنعاء الواقعة على ارتفاع يصل إلى ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر، تكون دافئة في نهاراتها الشتائية حيث الحركة والعمل، ويبدأ طقسها في البرودة أواخر العصر حيث الناس في مقايل القات ليصل ذروته عند الفجر.
كان في استقبالنا منتدباً عن مكتب شؤون الوحدة اليمنية الأخ محمد اليازلي وهو شاب لطيف يمتلك روح الدعابة وقد لازمنا طوال مهمتنا ملازمة الظل لأصله وأخذنا إلى فندق معقول فودعنا على أساس أن يمر علينا صباحاً لمقابلة وزير الوحدة الأستاذ عبدالله حمران ومن ثم مقابلة رئيس الجمهورية القاضي عبدالرحمن الأرياني لنشرح له مهمتنا البسيطة المعقدة، حيث كانت الثقة شبه معدومة بين الشطرين، لذلك فإن كل طرف يفتش فيما وراء النوايا، ويعرض ما يجده أو يتصور أنه وجده على محكات الاحتمالات المختلفة، فيخرج بالضرورة بشيء مدهش لا علاقة له بأصل الموضوع تماماً، وفي مثل هذه الأجواء تطيب للخفافيش حفلات الهمز واللمز.
لم يكن البروتوكول اليمني معقداً آنذاك، وقد دلفنا من بوابة القصر الجمهوري مشياً على الأقدام دون أن يسألنا الحرس إلى أين حتى وجدنا أنفسنا في غرفة وزير شؤون الوحدة بجانب مكتب رئيس الجمهورية ومكتب الأستاذ أحمد محمد نعمان عضو المجلس الجمهوري، ولم يكن عبدالله حمران في مكتبه فقد سبقناه في التبكير.
(طاس) الأستاذ جرادة رئيس الوفد في تفكير عميق ووضع رجلاً على رجل دون مبالة، بينما هو يسبح في البعيد حتى أن الوزير عندما وصل وهو يلهث من صعود السلم الحجري ويسلم فيما يشبه الاختناق لم ينتبه له الأستاذ الجرادة علماً أنهما صديقان قديمان حميمان… وفجأة فتح الله على الجرادة فقال دون ديباجة أو سلام أو سؤال عن الصحة والحال، “يا أخ عبدالله ما فعل الله بخيل الإمام التي كانت هناك في (الحوش)” مشيراً إلى البهو الخارجي للقصر؟.
كان الجرادة قد انتقل إلى الماضي فيما يشبه الغيبوبة وقد نسي الوفد والمهمة ومن الواضح أنه كان كمن يواصل حديثاً مع صديقه القديم لم ينقطع منذ الخمسينات، وكذلك كانت استجابة حمران، كان بينهما نوعاً من الاتصال الخفي (تلباثي).
قرصت الأستاذ جرادة لتنبيهه فإذا به ينتفض كأنما لدغه ثعبان وهو يقول،: “قل يا فتاح يا عليم.. ماذا تريد على الصبح؟” قلت: “الوفد والمهمة والسؤال عن صحة الوزير وتعريفه بنا” فأجاب: “أما عن الوزير فلا تتدخل بيننا، ومن شان أغيظك أكثر عادنا باسبه”، وفعلاً قام بسبّ الوزير على الطريقة العدنية، وهنا قام الاثنان معاً واحتضنا بعضهما طويلاً وبلهفة ومحبة عجيبة… وواصل الجرادة حديثه: “أما عن الوفد والمهمة ولعب العيال حقكم، فهذا أتركه لك ولصاحبك ابن الحاج، يا ابني، أنا جيت أفك الكربة عن قلبي أشوف أصحابي وأشم لي قليل هواء”.