صنعاء.. وإن طال السفر – 58

تواصلا مع زاوية الأمس من دفاتر الأيام العتيقة، ودعت أنا وزميلي الأستاذ محمود الحاج رئيس وفدنا الشاعر محمد سعيد جرادة، بعد أن ودعنا مدينة عدن ويممنا شطر صنعاء التي قال عنها الشاعر إنها ” حوت كل فن” والتي يقول عنها العرب “لابد من صنعاء وإن طال السفر” نظراً لصعوبة الوصول إليها وتحصنها على رأس الكتلة الجبلية اليمنية العظمى.

لم تكن صنعاؤنا في تلك الأيام في حال استقرار وإنما هو هدوء خادع مثل ذلك الذي يسبق العاصفة، ولقد كدت أن أقول ونحن ندخل القصر الجمهوري دون أن يسألنا الحرس إلى أين، وأوجه كلامي إلى رئيس الجمهورية القاضي عبدالرحمن الإرياني: حكمت فعدلت فأمنت فتركت بابك مفتوحاً، ولكنني بعد أيام من البقاء الضائع تهيأ لي أن ذلك لم يكن سوى الطريق السالك والباب المفتوح للإطاحة بالوضع وقد كان، وأن الشعرة الرقيقة التي لا تكاد ترى بين الأمن والمستتب المتيقظ والأمن المنهك النائم قد تكون العتبة الأخيرة للولوج إلى صرح بلقيس الممرد.

ولقد كان القاضي الإرياني كريماً وصريحاً معي وزميلي فأمر لنا بمرتب شهري يبلغ خمسمائة ريال لكل واحد نقيم به أودينا ولكنه أبلغنا في الوقت ذاته أنه لا يمكنه الأمر تبوظيفنا في الحال نظرا لملابسات قدومنا إلى صنعاء “وحتى لا يظن” الأخوة في عدن أن لنا يدا في موضوع هروبكما أو أننا نشجع هذا النوع من الأعمال مشيراً إلى أن علينا ان نعتبر أنفسنا في وطننا وبين أهلنا وعلى الرحب والسعة.  وكان القاضي كثير التحرز مديد الأناة وتلك بعض صفات القضاء والقضاة.

وهكذا بدأت أيام الصعلكة الصنعانية “لامهرة ولا عمل” على حد تعبير المثل اليمني، ولقد كان الوسط الأدبي في صنعاء ودوداً وعطوفاً وشديد الإحساس بنا بدءاً بالأستاذين الشاعرين عبدالله البردوني وعبدالعزيز المقالح وحتى مجايلينا وبالذات عبدالودود سيف ومحمد المساح وإسماعيل الوريث إضافة إلى النازحين من الجنوب أمثالنا الذين كانت تعلو وجوههم غبرة وتعرفهم بسيماهم ونظراتهم الشاردة وتشممهم للأخبار القادمة من عدن، وإن كانت على كثرتها في تلك الأيام مثل ” كلام الليل يمحوه النهار” أو أنه كلام الليل مدهون بشمع.. إذا طلعت عليه الشمس ذابا.

اترك تعليقًا