تجربة الموت في الحياة يمر بها كثيرون، فيتكتمونها ويحاولون إعفاء آثارها بانتظار اللحظة الفاصلة التي تبدو في صحراء حياتهم كالسراب، يقتربون منه فيفرّ من أعينهم وأكفهم كقبض الريح، فما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً ولا بأي أرضٍ تموت…ومع ذلك يعيشون التجربة في صميم وجدانهم ومعاناتهم، حيث تتكثف اللحظات كأيام الله التي تقاس بالسنوات الضوئية {وإن يوماً عند ربك كألف سنةٍ مما تعدّون}، فتجربة فراق مبكر لما ألفه الإنسان واطمأن إلى معرفته وظن أنه خبر مسالكه ودروبه في هذه الدنيا، فإذا به في غفلة من زمانه ينذر بالفطام، حيث لا مفر من المغادرة، فالموت كالليل الذي يدرك الإنسان حيثما كان، وكما وصف به النابغة خصيمه النعمان، ومع ذلك فقد أدركهما معاً لا فرق بين هاربٍ ومُطارده في بيداء النهاية:
وإنك كالليل الذي هو
مدركيوإن خلت أن المنتأى عنك واسع
|
وأقسى من تجربة الموت في الحياة وجهها الآخر، وهي تجربة الحياة في الموت، الذي يُسامر الإنسان في الهزيع الأخير، ويسايره كظله، ولا يملك سوى صداقته وإن كرهه، وعلى رأي أبي الطيب:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُّ
|
الناس في مواجهة التجربة مشارب وأصناف، فمنهم من يهرب إلى أمل كاذب وعقار خائب، يتعلق ببرق خلّب غير مدرك أن خصيمه في داخله وليس خارجه، ولعله يتأسى بقول الشاعر:
أعلل النفس بالآمال
أرقبهاما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
|
ومنهم من يختار المواجهة يأساً وكمداً من اختياره لحتفه دون أن يختاره الحتف ويغتاله، فيريح ويستريح، وقد تكون صرخته الأخيرة وهو يهوي من الجلجلة ما نسبه الرواة إلى ابن الوليد الذي تمنى موتاً لم يأته، فجاءه موتٌ لم يتمنه “إن في جسدي بضعاً وعشرين طعنة، وها أناذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء”. ومنهم من يطلب الرحيل على أسنة الرماح وشفرات السيوف، كذلك الخارجي الجسور الذي قال في أتون المعركة:
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة غير أن
أتقدما |
أو صاحبه الذي صاول نفسه وتعلقها بالحياة، فحاول بالمنطق إقناعها قبل أن يدفع بها إلى مصيرها المحتوم المقرر:
أقول لها وقد جشأت
وجاشتمن الأبطال ويحك لا
تهابيفإنك لو طلبت بقاء
يومٍعلى الأجل الذي لك لن تُجابي
|
صاحبنا غازي القصيبي دفع اختياره على النشيج المغلف بالكبرياء، وبإحساس خافت بخلود من نوع ما، وقد رأى بعينيه وعاش مصارع كثيرة أفنت نفسه حسرات، لكنه تمكن من التقاط بعض إشعاعاتها لتعيش حياة أخرى في الورق والأشعار، ولعلها تقادم الفناء حيناً من الدهر الخؤون:
هذه حديقة عمري في الغروب كما
رأيت مرعى خريف جائع
ضارِالطير هاجر والأغصان
شاحبةٌوالورد أطرق يبكي عهد
آذارلا تتبعيني دعيني واقرأي
كتبيفبين أوراقها تلقاك
أخباريوإن مضيت فقولي لم يكن
بطلاًوكان يمزج أطواراً بأطوارِ
|
البعض يموت مبكراً قبل الموت بعدة موتات، وهؤلاء قد ينساهم الموت نكاية باستسلامهم، فيطول عذابهم “ربّ ثاوٍ يمل منه الثواء”.