كأن الزمن لم يخدّدها

ذاكرة المكان تحتوي ذاكرة الزمان، فلا معنى لزمان بلا مكان، حتى الأفكار المجرّدة المتولّدة من اللغة ومن التأمل لا بدّ أن تجد لها مكاناً تتموضع به في تلافيف الدّماغ لتستطيع غرس جذورها وتفريع غصونها وبلورة ثمارها. كلنا مشدودون إلى المكان ملمساً ومنظراً ورائحة ومسمعاً، تأتينا الأصوات من الطفولة الغضة، كأن الزمن لم يخدّدها بمواساته المرعبة التي تقضم الجلاميد الصمّ، وتنتقض الجبال طولاً. أستنشق العبير في سوق البهرة بعدن، وما ثم من عبير، أقول لرفيقي: “ما هذه الرائحة الزكيّة”، فيستغرب لأنه لا يشمّ شيئاً، إذاً ذاكرتي هي التي احتفظت بروائح ذلك السوق الأنيق، أتذكر بيت الشعر العربي:

تمتّع من شميم عرار نجدٍ
فما بعد العشيّة من iiعرار


هذه هي حقيقة الحياة “فما بعد العشيّة من عرار”… قد تكون العشيّة هي محنة الإغتراب ومفارقة المكان، وقد تكون رحيل الأحباب والصحاب، وقد تكون مفارقة المكان لمكانه، والزمان لزمانه، وقد تكون الغربة في الوطن التي هي أشد من الغربة حول العالم الفسيح:

هذه   الكعبة   كنا   iiطائفيها
والمصلين   صباحاً  iiومساء
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها
كيف   بالله   رجعنا  iiغرباء

أقول لابني خالد عرّج بي على مخبازة علي أفندي في شارع الزّعفران بعدن، يجيبني: “هناك يا أبي ما أكثر حداثة وأفسح”، اقول: “أنت لا تفهمني، هذه بالنسبة لي ما عناه أمير الشعراء”:

ما أنت من عمر الزمان ولا غد
جُمع  الزمان  فكان  يوم  لقاكِ

كان أمامي عبر الشارع فرن الحاج (عبدالعزيز الأغبري) الرجل الذي كان ملء سمع عدن وبصرها، كشجرة مباركة تضيء وإن لم يمسسها نور، راعياً للرياضة ونجماً اجتماعياً لا تدري أي ريح مباركة جاءت به إلى هذه المدينة العطشى لكرام الناس. ذهبت إلى الفرن واشتريت كيلو من الخبز الشمار، وخبز بالحليب، وستة أقراص من (الروتي) الذي لا ينافسه أي (روتي) آخر في المدينة، لم أكن بحاجة لكل ذلك، وإنما هو الحنين وروائح الزمن الدّفين:

جادك  الغيث إذا الغيث iiهما
يا زمان الوصل في الأندلس
لم  يكن  وصلك  إلا  iiحلماً
في الكرى أو خلسة المختلس

“خلسة المختلس” هذا ما عبّرت به لصديقي ورفيق دراستي محسن محمد أبوبكر بن فريد الذي بعث لي برسالة تليفونية يقول فيها: “أراك تتجول في عدن عبر عمودك ولا بد أنك ستعرّج على صنعاء، وحتماً سنلتقي…” يا ليت، ولكنني أجبته أن زيارتي لعدن ليست سوى “خلسة المختلس”، فأجابني بالقول: “لقد كان اختلاساً رائعاً، ودليل عملي، على أن عدن محفورة في عقلك وقلبك”. شرفٌ لا أدّعيه، وتهمة لا أنكرها، وهل أجمل من أن تقع في حب فاتنة مكلومة عتيّة الكبرياء:

يزيدك وجهها حسناً
إذا  ما  زدته  iiنظرا

جئتها بوزن زائد يعيق حركتي بسبب استسقاء لا حيلة لي فيه، فخلّصتني من ذلك الوزن خلال أسبوع، وهو ما لا تستطيعه أي مستشفى في العالم، ألا أدين لها بالجميل؟!

فليت الذي بيني وبينك عامرٌ
وبيني  وبين  العالمين iiخراب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s