سر السوق الطويل

السوق الطويلقال لي صديقي ونحن نتجوّل في السوق الطويل بكريتر: “أربعون عاماً وأنا أذرع هذا السوق صباحاً ومساءً، ومع ذلك لا أشعر بالملل منه وكأنه يتجدد كل يوم”. لا يمكن تخيّل عدن بدون السوق الطويل وتفرعاته التاريخية، وإذا ما جنت أية سلطة محلية ذات يوم وقررت هدمه فإنها بذلك ستقتل روح المدينة ونكهتها وفرادتها، لذلك فإن المصممين والمهندسين يحتاجون إلى براعة فاقة وخيال خصب إذا ما أرادوا تحديث وسط مدينة عدن. وقد كانت خطوة الرصف بالحجارة موفقة لأنها أضافت ولم تأخذ، وعمّرت ولم تهدم، شأنها شأن الإضاءة البهيجة التي تغطي الآن عدن بكاملها، مع طرقها الرئيسية والفرعية، وحتى قلعة صيرة حظيت بنصيبها، حيث تبدو في الليل على حد تعبير الخنساء “كأنها علمٌ على رأسه نار”، والعلم هو الجبل الشامخ في لغتنا الجميلة. ويا لجبل صيرة من علمٍ مغروس في البحر، ولكن في رأسه نور في زمننا بعد أن كانت نيران المدفعية والمنجنيقات شارته المفضلة عبر العصور. السوق الطويل الذي رعانا صغاراً وأسعدنا بذكرياته كباراً يستيقظ منذ الصباح الباكر وحتى قرب منتصف الليل، والحركة دائبة فيه بدءاً بالمطاعم وانتهاء بباعة العمائم، وقد اشتريت هذه المرة منه ثوباً عربياً أنجز البائع خياطته في يوم واحد، مما ذكرني بمفصّلي البدل في بانكوك الذين يعرفون أن السائح لا يمكنه الانتظار طويلاً، فهو إذا لم يتحرّك إلى بلده فسيغادر إلى المزارات البحرية والجزر ومناطق الشلالات، وقد لا يعود إلى الحي التجاري، ولأن الحاجة أم الاختراع كما يقال فقد وضعوا لأنفسهم نظام الأربعة وعشرين ساعة لإنجاز العمل وبذلك يريحون ويستريحون. في بلادنا ما أغزر المزارات الطبيعية والبحرية، وما أكثر الجزر، ولكن السياح يمكن تعدادهم على الأصابع لقلتهم، ومن مصائب السياحة فقهاؤها المعاتيه الذين يتحدثون عن الخطف السياحي، بما يُفهم منه أنه يشجع على تدفق السياح، ألا بئس ما يصفون. حتى السياحة الداخلية – وهي أساس السياحة الخارجية – أخذت تجف وتتلاشى، لأن الناس بدلاً من الترحيب والتسهيلات صاروا يتنابزون بالألقاب المسيئة، ويعودون إلى جاهلتيهم الأولى، فيما أجهزة الإعلام التي يفترض فيها أن تتنبه مبكراً للتحولات والتبدلات في نزوعات الرأي العام لتقوم بدورها في التوجيه الصحيح، تراها غافلة وسادرة في لغو القول وقد نضيف بعضاً من سوء الظن الذي قيل فيه “إن بعض الظن من حسن الفطن” فنقول أنها متواطئة مع الإنحرافات لغرضٍ في نفس يعقوب. من السوق الطويل تتفرع الأسواق المتخصصة وإن كانت قد شذّت قليلاً عن القواعد التي بنيت عليها في الأصل نظراً للتطور الطبيعي الذي لا يترك شيئاً على حاله، فهناك حافة الحدادين وليس بها حدادٌ واحد الآن، فالصين تولت الحدادة في العالم كله، فقتلت الحرف والحرفيين في العالم الثالث على وجه الخصوص، وهناك سوق البُهرة، وكانوا متخصصين في العطور وخلطات الطيب وما يتصل بذلك، وقد رحلوا عقب الاستقلال حين اشتموا روائح الجنون وتحول بعض أكابرهم إلى دبي حيث طاب لهم المقام “ومن وجد الإحسان قيداً تقيّدا”. وهناك سوق الطعام، وقد حلت محله البقالات، وجاء صاحب مركز اللولو في (عدن مول) فالتهم جميع الأسماك الصغيرة, وأحال الأسواق إلى بلقع بنظامه الحديث وأسعاره المعتدلة ومتعة التسوق في الجور البارد. وهناك سوق السّيلة الذي تغمره السيول في المواسم الممطرة قادمة من منطقة الصهاريج، وقد أصبح الآن سوقاً للنساء وعيونهن الفاتنة مما يذكرنا بـ علي بن الجهم “عيون المها بين الرصافة والجسر…جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري”، وتحتوي جنباته على الملابس وأدوات الزينة والخردوات والذهب والإكسسوارات. وينتشر في عدن كما صنعاء باعة العسل الحضرمي والشبواني وأميزها دوعن وجردان، حيث خلّدهما المحضار في أشعاره وأبوبكر سالم في غنائه، وللشعر والغناء فعل السحر، وأتذكر للمناسبة أن والدي كان يستورد العسل من أستراليا في براميل ضخمة، ولأن إنتاج اليمن منه في الخمسينيات كان لا يكاد يذكر، فقد جنح الخيال بأحد العملاء إلى القول أن النحلة في أستراليا بحجم البقرة في اليمن، وإلاّ من أين تأتي هذه البراميل؟.

One comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s