الوطن هُو ما نبني ونُشيِّد لا ما نهدم ونُبدِّد، والطريق إلى الوطن يحتوي جليل الأعمال، كأن نُشيِّد مدرسةً أو جامعةً أو نشقُّ طريقاً أو نُعلِّم الفلاَّحين كيف يغرسون ويرعون غرسهم وكيف يُسقُّون ويصونون مياههم، وكيف يتعاونون للوصول إلى الأسواق بأبهى صُورةٍ ليُسوِّقوا إنتاجهم، كما أنَّ الطريق إلى الوطن يحتضن بذور التربية الصحيحة في التزام النظام واحترام حُرِّيَّة القول وإعلاء قِيَم النزاهة وإحسان العمل والتواضع الذي يُورث المحبَّة ممَّا يندرج في باب المنظومة القيمية الأخلاقية التي لم يغفل عنها أيّ دينٍ من الأديان، ولم تنهض بدُونها أيَّة أُمَّةٍ من الأُمم، ولو استمعت إلى ما يُردِّده الأفاضل ممَّن أُوتوا العلم أو بعضه حول أسلافنا العُظماء وعُصورنا الذهبية، لوجدت مكارم الأخلاق هي عنوان كُلّ عملٍ باقٍ على الدهر، ولكنَّكَ لو تأمَّلتَ في أعمالنا وفي تعاملنا وما تنطوي عليه النُّفوس والضمائر، لولَّيت فراراً لكي تلوذ بشعاف الجبال أو تلجأ إلى كهفٍ لا يعرفه أحد، حيث ينطبق على أكثرنا مثال الذئب والإنسان اللَّذين قال فيهما الشاعر :
«عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ»
الوطن ليس الكلام المُنمَّق والفعل المزوَّق وفصاحة اللِّسان من غير بيان ولا رهافة وجدان، وإنَّما هُو إخلاص النوايا ومُطابقة الفعل الحسن للقول الحسن، وفي هذا تفترق طرائق الناس باتِّجاه حُبّ الوطن أو الإساءة إليه، فرُبّ وجيهٍ يدَّعي ما ليس له في الوطن، يتحدَّث عن حُقوقه وينسى واجباته، «إذا قال كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان»، ورُبّ سياسيٍّ ذَلِق اللِّسان فاقع الألوان، يتحدَّث بالبُهتان ويُريد الناس أن يُؤمِّنوا على كلامه ويُصدِّقوا هَذَيَانه، وإلاَّ اتَّهمهم بالعقوق والخُذلان، ورُبَّ مُؤتمنٍ على أموالٍ عامَّة يُفكِّر ليل نهار كيف يحتال لتحويلها إلى حساباته الشخصية وأغراضه الدنيَّة ورغباته الشهية وغزواته العنترية ومباذله الدونجوانية، «ورُبّ مُستمعٍ والقلب في صَمَم!»، ليس القلب – فقط – يا أمير الشُّعراء، وإنَّما جميع الحواسّ، أطبق عليها صمت الضمير وإذعان الحَمِيْر وتمَّ تغليفها بفلسفة التبرير :
«وجفَّ الناس حتَّى لو بكينا
تعذَّر ما تُبلُّ به العيونُ
فما تندى لممدوحٍ بنانٌ
ولا يندى لمهجوٍّ جبينُ»
وأنا مُسترسلٌ في كتابتي هذه أطلعني زميلٌ على رسالةٍ تليفونيةٍ مُقتبسةٍ من كلماتٍ للشيخ عائض القرني، فقُلتُ له : دعني أرسلها إلى قُرَّائي لعلَّها تنوب عنِّي فيما أعنيه، ونصّها كالآتي : «إذا مرَّ القطار وسمعت جلبةً لإحدى عرباته فاعلم أنَّها فارغة، وإذا سمعت تاجراً يُحرِّج على بضاعته ويُنادي عليهم فاعلم أنها كاسدة، فكُلُّ فارغٍ من البشر والأشياء له جلبةٌ وصوتٌ وصُراخ، أمَّا العاملون المُثابرون، فهُم في سُكونٍ ووقار، لأنَّهم مشغولون ببناء صروح المجد وإقامة هياكل النجاح، إنَّ سُنبلة القمح المُمتلئة خاشعةٌ ساكنةٌ ثقيلة، أمَّا الفارغة فإنَّها في مهبِّ الريح لخفّتها وطيشها، وفي الناس أُناسٌ فارغون مُفلسون أصفار، رسبوا في مدرسة الحياة وأخفقوا في حُقول المعرفة والإبداع والإنتاج، فاشتغلوا بتشويه أعمال الناجحين، فهُم كالطفل الأرعن الذي أتى إلى لوحة رسَّامٍ هائمةٍ بالحُسن ناطقةٍ بالجمال، فشطب محاسنها وأذهب روعتها، وهؤلاء الأغبياء الكُسالى التافهون مشاريعهم كلام، وحُججهم صُراخ، وأدلَّتهم هذيان، لا تستطيع أن تُطلق على أحدهم لقباً مُميَّزاً ولا وصفاً جميلاً، فليس بأديبٍ ولا خطيبٍ ولا كاتبٍ ولا مُهندسٍ ولا تاجرٍ ولا يُذكر مع المُوظَّفين الرُّوَّاد ولا مع الكُرماء الأجواد، بل هُو صفرٌ على يسار الرقم، يعيش بلا هدفٍ ويمضي بلا تخطيط ويسير بلا همَّة».
انتهى كلام الشيخ، فشُكراً له، وبعكس ذلك فليتنافس المُتنافسون.