كُلُّ الوقت موجودٌ بين أيدي الناس، ولكن لا وقت لديهم وفق أُسلوب الحياة السائد، وهُو أُسلوبٌ عقيمٌ بأيِّ مقياسٍ إلاَّ بمقياس الكيف وتعمير الرأس والجري وراء الوسواس الخنَّاس.
يا لهذه النبتة العجيبة التي سرقت الرجال والنساء والشيب والشُّبَّان من أنفسهم ومن مسؤولياتهم ومن حُقوق الحياة، واتَّخذت لنفسها عرشاً فوق كُلّ العُروش، وقالت كما قال فرعون : «أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى»، كيف يُرجى لشعبٍ التقدُّم والإبداع ومُجاراة الشُّعوب المُتقدِّمة وهُو مُستعبدٌ بإرادته وبماله وبوقته، ليس لساعةٍ أو ساعتين أو يومٍ أو يومين، وإنَّما العُمر كُلّه، فهُو في سعيٍ دائبٍ لتوفير قيمة القات وتبعات القات وهرج القات وأمراض القات.
مررتُ بجانب سُوق القات بمنصورة عدن وقت الظهيرة، كان الزحام على أشدّه، والأصوات تتعالى وتتقاطع، والحلفان باللَّه وبعظمته تتطاير من أجل مائة ريالٍ أو مائتين في الزايد والناقص، والجميع في ملكوتٍ آخر غير ملكوت العمل والإنتاج، ولو صادف مُرور كائناتٍ من كوكبٍ آخر لتوهَّموا أنَّ شعبنا المُجاهد يعدّ العدَّة في سُوق القات لصدّ الغُزاة ودحر الأعداء والقضاء على أمراض التخلُّف، وأنَّ الهرج والمرج والتدافع هُو من قبيل الاستعدادات العُظمى لإجادة فُنون القتال بالصوت.
في سُوق القات تنفرج السرائر، فتجد أشدّ الناس بُخلاً تندى أصابعه بالكرم الحاتمي، وهُو يعدّ «بنادل» النُّقود التي اهترأت، وكان ينبغي أن تشقّ طريقها إلى المحرقة، لا من يدٍ إلى يدٍ تنقل الأمراض، وحين يحصل المُواطن على بُغيته من «أبو زربين» تراه يُهرول بالغنيمة كَمَنْ حاز ثواب الآخرة مُقدَّماً، يحلم بالمدكى والشراب البارد، والبعض بالقهوة المزغول أو الزنجبيل، وللناس فيما يعشقون مذاهب، وقد عرف المُتسوِّلون هذا المزاج اليماني الأصيل، فاتَّخذوا من أسواق القات مراحاً لهم، فالذي رمى خمسة آلاف ريالٍ لن يبخل بالمائة والمائتين، وهُم يلحنون في الطلب وعلى يقينٍ من أنَّ واحداً من كُلّ اثنين على الأقلّ سيستجيب، لذلك تجد دخل المُتسوِّل يفوق دخل العامل في الأشغال الشاقَّة.
وفي سُوق القات والمناطق المُحيطة به تسقط كُلّ الأنظمة، فتجد مَنْ يمشي بسيَّارته عكس خطّ السير، وَمَنْ يقف في الممنوع ويُغلق طريق الخُروج على السيَّارات الأُخرى، وَمَنْ يضع يده على المُنبِّه، «الهون»، غير مُبالٍ بما يُسبِّبه من تلوُّثٍ سمعيٍّ وإزعاجٍ لا يُطاق، أمَّا رجال المُرور، فتراهم كذرَّات الغُبار تأتي بها العاصفة وتذهب بها الريح، إنَّهم يسبحون في بحرٍ مُتلاطم الأمواج، والمحظوظ منهم مَنْ يعود إلى بيته سالماً مُعافى وفي يده ربطة قات.
بعد السُّوق وتأمين الكيف يبدأ التفكير في الغذاء السمين، الذي يرصّ المعدة ويُهيِّئ الفرش لاستقبال سُموم القات بعد أن أصبحت المُبيدات جُزءاً من زراعته وصناعته، لدرجة أنَّ البعض يُصرِّح بأنَّه قد أدمن المُبيدات، وأنَّه لا يُطيق القات النظيف إن وُجِد.
ومطاعم اليمن ومخابيزه مبنيَّةٌ على وجبة الغداء الخاصَّة بالقات والمُدمنين، وتجد مطاعم بني شيبة والمدابعة صُورةً من سُوق القات في الهرج والمرج، كأنَّ المُقدّمين من المجاذيب في غدوّهم ورواحهم بين الموائد، يأكل الناس على عَجَل، مُخالفين كُلّ قواعد الصحَّة التي تُوصي بالمضغ الجيِّد ليسهل على المعدة الهضم، والبعض ممَّن قدر عليه رزقه يذهب إلى البيت مُتبرِّماً ضائق الخلق ينتظر لحظة الفكاك لينطلق إلى المقيل، ولو كانت إمكانياته مُساعدةً لحرَّم على نفسه طعام «الحُرمة»، التي قضت نهارها تلتّ وتعجن فيه، أمَّا في المقيل، فثمَّة الوجبة الأُولى من الأحاديث الفارغة والنكات المُكرَّرة والحشوش اللاَّذع على الغائب الذي ما إن يحضر حتَّى يُشارك في الحشوش على غائبٍ آخر، ومن موضوعٍ إلى موضوعٍ دُون إشباع أيّ موضوعٍ حتَّى تأتي الساعة السُّليمانية فينكمش المُخزِّنون إلى دواخلهم ومخاوفهم والمناطق المُظلمة في نُفوسهم، ثُمَّ ينسلُّون واحداً تلو الآخر بلا ضجيجٍ ولا عجيج، وسُبحان مُغيِّر الأحوال.