في محراب الفن قضى كما ينبغي له، زاهدا متوحدا، حالما عالما، مليئا بصور الحياة في معاناتها وبؤسها، ومكابدة البسطاء ليستمروا في العيش دون أن يستمرئوه، هاشم علي: النظرة الحارقة الخارقة تشتعل من دمه إلى فراشاته إلى أكوان مخلوقاته لتنغرس عميقا في حضور اللوحة الصاعق وفي وعي المتلقي المأخوذ بصناع الحياة المتعبين الذين خرجوا من المجهول إلى المعلوم ومن العموم إلى الخصوص ومن الأرض البور إلى خصوبة الفن حيث لا تنطفئ الأنوار ولا تتصوّح الأزهار ولا تتصحر الأنهار. عاش في محرابه مرابطا محاربا راصدا مسجلا لينتصب تاريخه ومسيرة آلامه نداً كجبل “صَبِر” ومدرَّجاته وأنساقه التكوينية. ذلك الجبل الفريد الذي ألهمه المعاني والمعاناة، وساق إليه مصائر النازلين والصاعدين وأولئك القابضين على جمر الزمن وقسوة الوقت وهوان الإنسان. الوجه الآخر للوحة إدانة لظلم الإنسان للإنسان وسطوة المؤسسات التي تمتص رحيق الكائنات. قل أن نجد لدى هاشم ايقونات للفرح، فحتى حملة “الطيران” من مجاذيب الأولياء تعكس وجوههم نشوة الألم وهم يتصعدون في معارج الهروب المحموم إلى عالم آخر ليسوا على يقين إن كانوا سيردون مناهله وينابيعه، أم أنهم سيتردّون في مهاويه التي لا قرار لها. الموت لدى هاشم جزء من نسيج الحياة تحمله مخلوقاته في سيماها، في نظراتها الجازعة، في قوة الدفع المميتة لإنجاز عمل اللحظة وتنغيص المنغصات بعدم التراجع حتى النفس الأخير، من ريشةالمبدع ولد العالم السُّفلي لليمن بعيدا عن المدائح وتقريض الذات وبيع الأوهام، ولد ببساطة وجود صخرة معلقة بين السحب لا يدري أحد كيف استقرت هناك في شرفتها العالية. موهبة فذة؟ لا شك في ذلك ولكن المسيرة المستمرة منذ حوالي نصف قرن حملت وعثاء الطريق بقدر ما اغترفت من البريق، وذلك الحمل ناءت به كتف الفنان الذي تحمل تبعات الهوى لكأنه العاشق الوحيد:
أأنا العاشقُ الوحيدُ لتُلقى
تبعاتُ الهوى على كتفيّ
لنا أن نفاخر بمتحف الجمال الآسر الذي تركه هاشم علي، وقد آن أن نستيقظ لنرى وجوهنا في مرآة فنه وبصمات روحه وضربات فرشاته، فما قيمة حياة تطبعها “السبهللة” واعتناق المظاهر الكذابة وتجميل القبح، ولكم كان الاستاذ خالد الرويشان صادقا ومتألما وحادباً حين كتب: سيمر وقت طويل قبل أن يعرف اليمنيون حجم فاجعة فقدان فنان كبير بحجم هاشم علي. ولأن الغيبوبة ضاربة أطنابها في جُنبات الروح اليمنية في لحظتها الراهنة، فإن رحيل مثل هذه القامة الفنية السامقة يوجب تيقظ هذه الروح وانتباه هذه الجُنبات؛ جُنبات حياتنا السادرة في كل ما يحزن ويميت، اللاغية في كل لغو وغلو، الهادرة في ثرثرات القبح والكراهية”.
أدى هاشم علي رسالته الفنية بتجرد وشرف وانسجام مع النفس. لم يخن موهبته ولم يوظفها لغير الخلق والإبداع وفي عمق لوحاته المشذبة الخالية من الزوائد وفضول اللون يستطيع المتلقي الحصيف أن يغور عميقا فيما لم يُرسم ولم يُقلْ، فجميعنا تمر أمام أعيننا تجليات الحياة، ولكن القليلين هم الذين يبصرون كما أبصر هاشم علي.