مصطفى محمود

مصطفى محمود.
مصطفى محمود

“أما آن لهذا الفارس أن يترجّل”… عبارة قالتها أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي تعبُرُ في ظلال الحزن، وقهر الكبرياء، وغلبة المتغلّبين بحدّ السيف، تحت مشنقة إبنها عبدالله بن الزبير بن العوّام في مكة المكرّمة، وعلى أبواب المسجد الحرام، حيث مازالت أنوار النبوّة وإشعاعات الصحابة من الأئمة تغمرُ النفوس، ولكن الدنيا كانت أشدّ غلبة، تلك العبارة سرت مثلاً كما سارت سابقتها حين شكا ابن الزبير همّه إلى أمه ذات النطاقين، من أن يُمثّل به بعد موته، وربّما كان ذلك بحثاً عن مخرج من المحنة والفتنة، أغلقته العجوز بحزم لا يلين حين قالت له: “إن الشاة لا يضرّها سلخها بعد ذبحها”، وبذلك رسمت له مساراً في اتجاه واحد لا عودة عنه، فإنما… وإمّا… ومنذ ذلك العصر وحتى يوم الناس هذا يواجه المجتهدون مصائرهم في ظلال المشانق الدينية التكفيرية والسياسية التلفيقية والاجتماعية التحريضية:

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره=تعدّدت الأسباب والموت واحد

توارد ذلك إلى ذهني حين بلغني نبأ وفاة المفكر والكاتب والأديب والطبيب المصري مصطفى محمود عن 88 عاماً، ملأ فيها الدنيا وشغل الناس – حسب التعبير الجامع المانع لابن جني عن أبي الطيّب المتنبي – وكانت حصيلة هذه المسيرة 89 كتاباً، لا أظن أن أحداً ممن يعشقون الكتاب أو حتى يفكّون الخط لم يلم بها أو ببعضها في طول الوطن العربي وعرضه. وكان مصطفى مفكراً إشكالياً بامتياز، لأنه خرج عن القطيع وعن النقل الشنيع، واتخذ عقله وتجربته هادياً له فيما يقدم عليه أو يعرض عنه، كأنه يسترشد بالمعرّي القائل:

كذب الظنّ لا إمام سوى العقل=مشيراً في صبحه والمساء

وقد أورده هذا النهج موارد سابقيه من المفكرين والمجتهدين، وتعرض للرجم والقذف، ولكنه لم يحد، وصان عقله عن المسلّمات، ورحل به ومعه إلى رحاب الإنسانية الوسيعة الباحثة عن الحقيقة بطرقٍ شتى، فتعمق في البوذية والبراهمية والزرادشتيه، ومارس تصوّف الهندوس، ثم عاد من فترة الشك إلى الينابيع الإيمانية في التراث العربي الإسلامي، عقب رحلة مضنية تشبه رحلة الإمام أبي حامد الغزالي، وقد كتب عن ذلك:

“إحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الأفكار على كل وجه، لأقطع الطرق الشائكة من الله تعالى والإنسان إلى الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين”.

وقد انتهى إلى أنّ الله تعالى فطرةٌ في كل كائن بشري، وبديهة لا تنكر، لذلك كرّس حياته وماله وجهده لتجسيد قناعاته عملاً صالحاً هادياً، فأنشأ جامع مصطفى محمود الذي جمع بين العلم والإيمان، فهو يحتوي على ثلاثة مراكز طبية، ومستشفى، وأربعة مراصد فلكية. وللدكتور مصطفى محمود برنامج تلفزيوني شهير بالغ التأثير تحت عنوان (العلم والإيمان)، وقد نهج فيه نهجاً مغايراً للدعاة الألسنيين، فاتخذ من آيات الله عزّ وجل في الكون والخلق مسرحاً للتأمل، ومثابة للإيمان، وتوسيعاً للآفاق المحدودة المنطوية على نفسها، وكان يرى أن كل الطرق تقود إلى الله تعالى، كأنما يستلهم قول ابن عربي:

عقد الخلائق في الآله عقائداً=وأنا اعتقدت جميع ما عقدوا

ومع كل هذه الأعمال الجليلة الملموسة، لم يسلم الرجل، وخاصة بعد إصداره كتاب (الشفاعة) الذي ناقش من خلاله الآراء والإجتهادات الرائجة حول الشفاعة، وخالف الكثيرين. وقد صدر كتاباً للرد عليه وتسفيهه، ولم ينصفه – ربما – سوى الدكتور نصر فريد واصل، مفتي مصر، الذي قال: “الدكتور مصطفى محمود رجل علم وفضل ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الإطلاع والغيرة على الإسلام، فما أكثر المواقف التي أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين، وكم عمل على تنمية الشريعة الإسلامية من الشوائب التي علقت بها”… حقاً إن جميع الحريّات المسموح بها في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي لا تكفي كاتباً واحداً كما قال ذات يوم الدكتور يوسف إدريس.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s