لا سقف للألم ..

والحق إن الآلالم ليست نوعاً واحداً تتعاطاه برضاك أو بدون رضاك، ثم تقول انتهى الشوط ولن يأتي ألم أشد منه وأنْكى. التعميم هو إحدى خدع اللغة، والميل الإنساني للكسل العقلي الذي يوجِد المتشابهات في واحد يقصر عن إبراز الفروق، وما أمضّها وما أكثرها وما أبلغها تلك الفروق في الوصول إلى أهدافها. مائدة الآلام كموائد الملوك، فيها كل الأصناف وكل المذاقات، وكل ما فيها وما يحيط بها محكم متفرّد، ولكل ذوق ما يشتهي، لا تملك إلا أن تردد مع بدر شاكر السياب:
لك الحمد مهما استطال البلاء=ومهما استبد الألم
لك الحمد إن الرزايا عطاء=وإن المصيبات بعض الكرم
يبدو أن بدر حين نسج هذه المعزوفة المليئة بالألم – رغم اليأس – كان قد استقل شراع النهاية، وينتظر فقط الأمر بالإقلاع في مستشفى الشيخ خليفة في أبوظبي، حيث أمضيت ثلاث ليالٍ حسوما، كنت حائراً بين آلامي وآلام جاري الشاب البنجالي المصاب بسرطان الحنجرة، وكانت نوبات من السعال الجاف الذي لا تدري كنهه تنتابه طوال الليل، فلا يريح ولا يستريح، وكيف لي أن أغمض جفني في هذه الواحة من الألم الإنساني المتمادي. مع بشائر الصباح يكون صاحبي قد انهدّ حيله وليس التعب الشديد سوى أحد أنجع مسكنات الألم كالمورفين والبنج وما أشبه. أقول لنفسي ليته يستبدل نهاره بليله لنكون معاً على موجة واحدة، ولكن هيهات، فبعض الآلالم لا يثور إلا في الليل، مثل تلك الحمى التي أحسن وصفها أبو الطيب المتنبي:
وزائرتي في كأن بها حياء=فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا=فعافتها وباتت في عظامي
كأن الصبح يطردها فتجري=مدامعها بأربعة سجام
وليت الصباح هادئاً في المستشفى، فمع تبديل نوبتَيْ الليل والصباح تعقد الممرضات مؤتمر تبادل المعلومات والتسليم والإستلام في الردهة المفتوحة، مع قدر من النميمة على المرضى وطباعهم، وتعلو لهن ضجة عظيمة شأن طلاب المدارس عند قرع جرس إنتهاء الحصة الأخيرة، فالمرهقات من “زام” الليل يلعلعن قبل ذهابهن إلى النوم، وصاحبات “زام” النهار يأتي “قرش” شأن الأحصنة التي تعودت أن تغبر في السرايا… وتدخل في قتام في قتام… على حدّ أبي الطيب.
أما الدكاترة فملوك طقوس الراحة، يأتون في الثامنة ويذهبون إلى قاعة الإفطار لأخذ “لجع” كلام وما تيسّر من فواتح الشهية على الصبح، ثم يبدأون جولتهم على الغرف في التاسعة، ولا تدري متى يأتي دورك، فمن أين يأتي النوم؟ فيما الشاب البنجالي يغط في نومٍ عميق أملته الضرورة أكثر مما أملاه الإختيار. وما بين إفطار السابعة وحتى العاشرة تأتي الممرضة لقياس الضغط ومعرفة حرارة الجسد وقياس سكر الدم، ثم تأتي بالأدوية، فمن أين يأتي النوم؟ ثم إن جسد المريض المتألم ليس كسائر أجساد الأصحّاء، فقد تنتابه حالات من البرودة والحرارة لا تدري معها هل أنت في ثلاجة أم أنت في مقلاة على نار الطباخ. ثم يأتيك النغز بالإبر من كومة الآلالم وكأن الذي فيك ما يكفيك، فمن أين يأتي النوم؟ توسلت إلى الطبيب المعالج أن يطلق سراحي لأن حاجتي في هذه الأويقات إلى الراحة والسكينة أكثر من حاجتي إلى الأدوية الكيماوية التي لا تفعل غير تقليب المواجع وإرهاق الكبد الذي تتطاير عيناه شرراً نظراً لعجزه عن تنقية كل السموم.
قرأ الطبيب تعبي وتفهمه، فقال لي: “إن حالتك مشخصة وأدويتك محددة، ويمكن تعاطيها في البيت، وإذا شعرت بأي توعك بادر بالمجيء إلى العيادات الخارجية، أو عبر الطوارئ للضرورة”. وقعت أوراق الخروج ولم يبق سوى التسوية الإدارية وإذن أمين الصندوق بالفكاك، وطبقاً لحساباتي فإن بطاقة (الضمان) سدادة، إضافة إلى أنني تنوّمت بناءً على (حق الحياة) الذي أعفى الشيخ زايد رحمه الله تعالى صاحبه من أي أعباء.
أرسلت إبني محمد للمخالصة، وقلت له: “إذا طلب الصندوق مبلغاً لأي سبب فهذه الخمسمائة درهم في جيبك لا تفاصل، إحنا اللي جبنا الفلوس ما هي اللي جابتنا”، ذهب محمد وعاد بعد نصف ساعة يبتسم وهو يعيد الخمسمائة ليقول: “الحساب ستة عشر ألفاً وأربعمائة وأربعة وأربعون”، “يعني حبكت على الأربعات”، ويرفض الكاشير إعطاء أي تخفيض، ويقول إن بطاقة الضمان أخلت مسؤوليتها، أخذت أضحك و “شرّ البلية ما يضحك”. حوالي 850 ألف ريال، يا لها من ضيافة ملغومة لثلاث ليال هي من حق الضيف في عرف العرب.
لبست (البيريه) الذي كان يلبسه توفيق الحكيم، وذهبت على الكرسي النقال وعصاي بيدي، وحين رأني أمين الصندوق قال يا عمي أعفيناك… ماذا حدث؟ لا أدري..!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s