خذاني فجراني

أخذ عمار أصغر الأولاد يستدرجني للذهاب إلى المستشفى، وأنا كالعادة أحرن في مكاني كأنني سأذهب إلى المقصلة، يبدو أن التكرار الذي قيل أنه يعلم الحمار قد علّمني أنني سأذهب في هذا الهزيع الأخير من الليل إلى قسم الطوارئ في مستشفى الشيخ خليفة في أبوظبي، وسيستضيفونني حتى الصباح، قبل أن يقولوا: “وداعاً… إذا اشتكيت من شيء ثانية راجع العيادات الخارجية”، والعيادات الخارجية مواعيدها بالأسابيع، يعني “موت يا حمار”، ألم قليل في الصدر مقدور عليه، ولو عاد بي العمر إلى طفولة القرية لوسموني بمكوى وكان الله بالسر عليما. جيلي كله موسوم، والسعيد ليس الذي “ما عرف كيف الهوى، ولا الذي فيه قد صار ناشب”، على حد قول المغني، وإنما السعيد من كانت مكاويه غير ظاهرة للعيان، مشوهة للبنيان من خلق الرحمن. ولا أزال أستحضر صورة زميل طفولة تم وسمه بالنار بعرض جبهته، وقد نذر باقي عمره لمحاولة إخفاء ذلك الحرق النشاز.
لم ييأس عمار، وقد خفف عليّ بالقول: “إعتبرها نزهة، سآخذك عن طريق الكورنيش، وستلقي نظرة على صديقك القديم البحر”، قلت في نفسي: “إبن الوز عوّام”، إنه يوشك أن يغلبني ومزاجي شأني شأن صاحبنا كمال السوداني العاشق للعبة (الدارتس)، وهي الرمي على دائرة صغيرة معلقة بأسهم حادة بالكاد تملأ الكف مجموعة منها، وكلما لعب مع الشباب من الذكور تجلى وتفنن وأحرز السبق، ولكنه ما إن يلعب مع إحدى الشابات حتى ترتعد مفاصل يديه ويترج عليه فلا يرى الأرقام سوى محض خيال، فيغلبنه، فأقول له: “أهكذا فعل الظبي بالأسد؟ يا خسارة يا سي كمال”، فيقول منتشياً أنا أُغلب بمزاجي، وهل تريد الأسد الكامن في داخلي أن يروّع الظباء من أجل انتصار لا طعم ولا لون ولا رائحة له، إفهمها يا عم فضل، ذا إحنا بنقول عليك حكيم القوم وأبو العريف”. وهكذا يستدرجني إلى موافقته الرأي كما استدرجني إبني عمار إلى طوارئ مدينة الشيخ خليفة بن زايد الطبية. وكنت قد خبرت في ذلك المكان طبيباً كندياً عملاقاً حاد النظرات، يحقق مع أي وافد للطوارئ “ولا محققي جوانتانامو”، وذلك ليكتشف من ألزمته الطوارئ حقاً بالمجيء، من آخرين يريدون دخول المستشفى ولديهم أمراض مزمنة، فهم يختصرون الطريق الطويل بين العيادات الخارجية والغرف، ولم أكن – والحمد لله – منهم، فأقصى مناي كلما أرغمت على المجيء أن يُطلق سراحي عقب تخطيط قلب سريع أو إجراء تحاليل دم برعت المخترات الحديثة في الإتيان بنتائجها خلال ساعة من الزمن.
قل الحمد لله أنني لم أجد ذلك العملاق المفتول العضلات الواقف على باب جنة الطوارئ، وقد تولى أمري طبيب عراقي مقدام، ففحصني فحصاً جيداً وأمطرني بأسئلة رقيقة ودودة، حتى أنه عندما تطلّع إلى إسمي قال لي: “حضرتك عراقي”، فلم أشأ أن أخيّب ظنه وأقول له أبو يمن، فقلت له: “نعم يا سيدي من نقباء البصرة، ولست من الإثني عشر نقيباً الذين أفسدوا في الأرض كما جاء في القرآن الكريم”. كان الرجل قد سرح في عالم التحاليل ولم يكن السؤال سوى طارئ طرأ أوحى به الإسم، وقد أنقذني سرحانه، فقد كنت أستعدّ لكذبة بيضاء أخرى إذا اكتشف لهجتي، فأقول له الأصل من هناك، ولكنني من النقائل إلى اليمن السعيد. وقد ذكرني بعراقي آخر أخذت إليه إبني محمد بسبب تسمم غذائي ذات زيارة إلى صنعاء، وكان طبيباً مناوباً في أحد المستشفيات الخاصة بشارع تعز، والتي أول ما يفجعك فيها نظام الدهلزة المعمارية، “يعني” دهاليز دهاليز كبيت جحا، ثم ضعف الإضاءة التي تجعلك تتعثر بالناس الجالسين كيفما اتفق، فما ثم غير التوجع والأنين، نظر الطبيب العراقي إلى وجهي وإلى وجه ابني وقال لي: “أكيد ما إنته من أهل صنعاء”، قلت: “زائر ولكنني مقيم في الإمارات”. وكأنما لدغه ثعبان وهو يصرخ: “شنهو اللي جابك؟”، قلت له: “اللي جابك زائداً عليك أن هذا بلدي مع كل الحب لك. قال: “إذا انته شاطر دبر الدواء اللي راح اكتبه لك، حتى قطعة الشاش أو الإبره الفارغة لا توجد هنا، اجلبها بنفسك”. وكانت ليلة ليلاء حرمنا بعدها المرض ولو كان فيه الأجل.
هنا في مدينة الشيخ خليفة نسبح في الأضواء، الردهات ملاعب، والمستلزمات الطبية “شبيك لبيك”. قال الطبيب: “سندخلك المستشفى على الرحب والسعة”، ثم سألني: “هل لديك بطاقة ضمان طبي؟” قلت له :” نعم، أقلها ثمناً وأكثرها بركة، لأنني طول عمري أتمنى أن أحشر في زمرة المساكين”، وإن هي إلا ساعة زمان حتى كنت أنام قرير العين في غرفة حسنة الإضاءة، تشع بالنظافة، وحولي ملائكة الرحمة من أجناس شتى، سبق أن عرفتهم وخبرتهم، ولكن واحدة كانت مختلفة، فيضٌ من الرقة، ابتسامة عذبة، تمشي كأنها طيرٌ من طيور الجنة، متعدية مقاييس: “عراقية العينين، نجدية الحشا، يمانية الأطراف، مصرية القد”، قلت لها: “ويش القبيلة؟” ابتسمت بعد الترجمة فقالت: “ساوث كوريا (كوريا الجنوبية)”، قلت لها: “وحيدة؟”، قالت: “لا، وتلك إحدى زميلاتي”، وكانت مثلها الخالق الناطق، كأنما نزلتا من مصب، قلت لها: “ألم تسمعي بمالك ابن الريب”، نظرت إليّ لا تجد جواباً، قلت لها الآن وقته:
خذاني فجراني ببردي إليكما=فقد كان قبل اليوم صعباً قياديا

One comment

  1. سلمت يداك يا والدي الطيب… رحمك الله وتغمد روحك الجنة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s