إلى عبدالله عبدالولي – عاشق عدن
قرأت للأستاذ الدكتور (عبدالله عبدالولي) ناشر في صفحة (أدب وثقافة) بجريدة (الثورة) الغرّاء، عدد 29 أغسطس 2009م، مُناجاة حبّ دفين وتجليات هوىٍ سكين إلى معشوقته (عدن)، المدينة التي لا يعرف سحرها سوى من عاناها:
لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده
ولا الصبابة إلا من
يعانيها |
وقد كتبتُ شخصياً عن عدن ما كتبت من ذكريات ووجدانيات، وتقرّبت إليها دائماً بالنذور والكلمات الموشاة بالمحبّة والوفاء، ولطالما شعرتُ أنني كالظمآن الذي يحاول إطفاء عطشه بماء البحر المالح، كلّما ازداد رياً ازداد عطشاً، أغمض عليها عينيّ فتتّسع، فتطير بأجنحة أحلام الطفولة لتُغطي سماء العالم، أردّد مع الأميرة ولاّدة بنت المستكفي، كأنما في حلقة ذكر يتساقط فيها الوالهون كالفراشات:
ولو أني غمضت عليك عيني
إلى يوم القيامة ما
كفاني |
لطالما أمضّني الحنين، وأضناني الشوق، وأتعبني التوق، وجافاني النوم، وأنا أتخيّل نفسي وقد شطّت بي النوى بعيداً عنها، أجول في شواطئها الذهبية، وأرتاد أسواقها التجارية، وآنس إلى لهجة أهلها النورانية، وأتطلّع إلى قممها النارية الممتدّدة إلى عمق البحر، وقد تلحّفت بغلالات الصباح الوضيء، أو اتّشحت بذهب المغيب الذي يتلامع على قلاعها ودروبها، وعلى مراكب الصيّادين المدلجة في طلائع الظلام تتهادى كالأطفال إلى حُضن أمّها الرؤوم، أغشى مقايلها وأعرّج على نواديها وأقسّم جسمي في جسوم كثيرة من أهلها الفُقراء الصابرين المحتسبين الذين سكنوا عشوائيات مهاوي الجبال يطلبون رزقهم كفاف كلّ يوم، يمشون على الأرض هوناً وهم يلهجون بالسّتر ويطلبون حُسن الخاتمة، إنهم ملح الأرض ونبضها، من صيّادين على باب الله لوّحتهم الشموس وصاولتهم البحور وشيّبتهم الأمواج الهُوّج والعواصف السود. ومن باعة مُتجوّلين يشترون ويبيعون ما اتّفق، سيّاراتهم أقدامهم، وظهورهم عرباتهم، اعتادوا لهيب الشمس الصاهرة، وتمرّسوا في مُعايشة (الغوبات) السافية، ومن صغار التجار الذين راهنوا على مُستقبل عدن التجاري، ينتظرون بزوغ شمسه كما تنتظر الأمّ الثكلى عودة طفلها الضائع. ومن وافدين إلى المدينة من كلّ أنحاء اليمن، يستعيدون ذكريات رحلت، ويبحثون عن أماكن دَرَسَت ومعالم اندثرت، بعضهم ولد هنا، يلوذ بأركان الصّبا “لوذ الحمائم بين الماء والطين”، وبعضهم سَفَحَ شبابه في معاهدها وملاعبها وملاهيها، بعد أن جاءها طفلاً من الأرياف القريبة والبعيدة، يتفرّس وجه المحبوبة ويستعيد عطرها، مُتذكراً عُيون المها وأماليد الغصون الغضّة، ووعود الزمن الغابر، يقف أمام شمسان كما وقف أبو ماضي أمام جبل لُبنان
وطن النجوم أنا
هُناحدق أتذكر من
أنا؟أذكرت في الماضي البعيد
فتىً غريراً
أرعنا؟ |
فاجأني (عبدالله عبدالولي)، لكنه على حق، فقد طاردته المدينة إلى (أوتاوا) حيث القُطب الجنوبي وبحر الثلج والبطاريق العاشقة، كيف سيهرب منها إلاّ إليها، كيف سيصحو منها سوى بارتشاف سُلافتها، لقد أشرقت بشمسها القارحة فوق جبال الجليد، ولم تطمئنّ إلاّ حين استعادة ابنها (الولي) إلى مجلس نُدّامها:
أدب الشراب إذا المدامة
عربدتفي كأسها أن لا تكون الصاحي
|
إذاً، فلنتقاسم الحبّ، وكلّما ازددنا منه نهلاً سيزداد عُذوبة ودفقاً، حتى يستوعب الماليين الذين أضاعوا سفر المعاني إلى أعشاش الكلمات:
إن كان يجمعنا حبّ
لغرّتهفليت أنا بقدر الحب نقتسم
|
لقد وَهِمتُ ذات انتشاءٍ وبوحٍ، فظننت أنني “الطائر المحيّ والآخر الصدى”، ذلك أنني عجزت عن استنكاه هوى النفوس، حتى أنينٌ كنت أردّد:
أأنا العاشق الوحيد لتُلقى
تبعات الهوى على
كتفيّا |
لا لست لوحدك أيها المغترّ بنفسك، وفي الأخير ستخاطب رسلك إليها خطاب (أبي الطيّب) لرسوله إلى المحبوبة
ما لنا كلّنا جوٍ يا رسول
أنا أهوى وقلبك
المتبولكلّما عاج من بعثت إليها
غار مني وخان فيما يقول
أفسدت بيننا الأمانات عيناها
وخانت قلوبهنّ
العقول |
في الحب متسع للجميع، لذلك اقتطعتُ من قماشة (عبدالله عبدالولي) وكتبت إليه إلى أديمها العاشق:
“يا بلبل الشجن العاشق الضنين المواغن، يا من بقلبك الشفيف، زوّادة الوطن، وروحه الأحَنّ، ولحنه الأغنْ، وما تهادته أساطير اليمنْ، من الصبابات إلى عدنْ، مهد الصّبا، وغرّة الزمن… الله يا عبدالله، أنطقك الحب وما للحب من سُنن، يعصف حين يدّعي بأنه وهن، نكتمه غصباً فيجفونا ويُعلن العلن، نطوف أرض الله يا عبدالله مبهورين بالجمال والجلال والفتن، نبدع شعراً ونَحُوُك نثراً، ونغنّي الدان أطياراً على فنن، نستعذب الدنيا وأهلها، نغزل من شموسها ومن أفيائها لنا وطن، لكننا إذا أتى المساء، وشاقنا الوسن، وانداحت الأحلام في قلوب هجرت وذاقت المحن، نبكيك يا عدن، يا شهقة البحر، وكبرياء الجبل الحارس، والحلم الذي أضاعنا، حطّمنا كأساً ودنْ، رُحماك يا عدن، رُحماك يا عدن”.