سعد غزال

في الذاكرة الموشومة بالحنين، والمغطاة بسوافي الرمال العربية، وضباب القصور الفكري والمصالح الضيقة وتداخلات الأعداء الذين أجهضوا المشروع القومي الكبير لوحدة العرب، في هذه الذاكرة تلمع نجوم من عامة الناس، ومثقفي الشعب، ولم تسقط الراية أبداً، ولم تساوم على أحلامها، ولم تتخل عن رسالتها حتى النفس الأخير، ومن هؤلاء سعد غزال.

سعد غزال
سعد غزال

نعم… سعد غزال، الرجل الذي رحل عن دنيانا ولن يرحل أبداً من ذاكرتنا، الرجل الذي عرفناه مع بزوغ شمس الوحدة العربية ومشروعها الحضاري الكبير، والذي كان صوتاً من أصواته المميزة وهو يجلجل من الجزائر إلى اليمن. لقد كانت سنوات سعد غزال الأخيرة هنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن خلال شاشة تلفزيونها من أبوظبي، كنا نشاهد ذلك المحاور الناضج الذي عركته التجارب، والذي لم يفقد إيمانه بالكلمة، ولم يفقد تفاؤله بقدرة العقل العربي على تجاوز الراهن، وتجاوز التجزئة على الأرض وفي العقول وفي أعماق الروح التي هذّبها الإسلام وخرج بها العرب إلى العالم، أمة واحدة، ورسالة حضارية، وسلاماً مزدهراً، وعدلاً لا يفرق بين أبيض وأسود، وبين عربي وغير عربي إلاّ بالتقوى بمعناها الشامل وبعدها الإنساني.

كان عبدالناصر وكان انبعاث الروح، ومع تلك الروح رحلت قوى ظلام كثيرة وعديدة، وتحررت أرواح وعقول ملايين كانت في قبضة المد الإستعماري، والنهب المنظّم، والفراغ الفكري، واستلاب الثقافة والتاريخ، ولم يكن عبدالناصر فرداً جاء من فراغ، وإنما كان رمزاً لتاريخ، ولأعماق تفاعلت عبر مئات السنين تطمح إلى النور، وتنزع إلى الغد، وتتطلع إلى استعادة شملها المبدد، وكان هو وكانت ثورته، وكان شعب مصر، حلقة مجيدة جاءت على موعد مع التاريخ، وضمن جيوش مصر العربية كان العلماء ورجال الدين والصحفيون والأطباء والمعلمون والعمال، ولايزال هؤلاء يؤدون رسالتهم الحضارية بمعرفة أوسع وبحضور أقوى وبتأثير يجعل من مصر شوكة الميزان بين جناحي وطننا العربي الكبير.

كان سعد غزال من جيل (صوت العرب)، تلك المدفعية الإعلامية التي كانت تقصف ليل نهار، ويلتف حولها العرب في كل بيت وشارع، وقد نجح أعداؤنا وأعداء أنفسنا في أن يصوروا لنا ذلك الرعيل من الإعلاميين العرب، وكأنهم سبب نكساتنا وسبب بلائنا، وما صدقوا الله ولا أصدقونا القول، فما عرف العرب في تاريخهم المعاصر وسيلة إعلامية أقوى وأكثر فاعلية من (صوت العرب) ولا أشد على الأعداء وأرهب لنفوسهم منه، وقد نختلف على الأساليب، وعلى مدى الشحن العاطفي، والصياغات العقلية ، ولكن (صوت العرب) كان ابن مرحلة التوهج العاطفي، والحماسة المتأججة، والشعور الملتهب، والنفاذ إلى القلب، وقد أدى تلك الرسالة، ولكن كما يقال فإن الإنتصارات لها ألف أب، أما الهزيمة فلها أب واحد، لأن كل الناس يهربون منها كما يهرب الصحيح من الأجرب.

نعم… رحل سعد غزال، رحل كما يرحل الفرسان الحقيقيون، لم يتنكر لرسالته، ولم يساوم على كلمته، ولم يفرق بين أرض مصر وأرض الإمارات أو أي أرض عربية، وكان مثالاً في أخلاقه وسلوكه لتطابق الباطن والظاهر، ولتلازم الخلق الشخصي والعقيدة الراسخة، وإن القول والفعل ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، وإلا كان الفكر رياء، وكان السلوك دليلاً حياً على ذلك الرياء.

وتعود بي الذاكرة إلى عام 1963 حين جاء أحمد سعيد قائد مدفعية صوت العرب آنذاك إلى الشطر الشمالي من وطننا اليمن، فاستقبله عامة الناس استقبالاً حاشداً لم يَفُقْهُ في جماهيريته سوى استقبالهم لعبد الناصر، فقد كان معروفاً لدى الجمهور أكثر من قادة الجيوش وأصحاب الملايين، وجاءت القبائل البسيطة من كل فج لتشاهد أحمد سعيد وتنحر الذبائح على شرفه، وتهتف له من أعماقها… ألا يجد أي مؤرخ في هذا الحب الفطري دلالة؟
لقد مضت مرحلة إعلامية بكاملها من حياة العرب، وجميعنا اليوم ننشد صوت العقل والحقائق، وهي مرحلة في تطور وعي الشعوب وفي تجاربها، كما هي في حياة الفرد حينما ينتقل من سذاجة الطفولة إلى حماس الشباب، إلى توهج الرجولة وعياً وجسداً، فإلى الحكمة والعقل والنضج وإقامة الموازين، وعلينا ألا نحرم تاريخنا من محاكمة العقل، ومن استقرائه في مرحلته ومعاييرها.

رحم الله سعد غزال، فقد تحمل مسؤولية الموازنة بين العقل والعاطفة، وبين فداحة الهزيمة والرغبة الشعبية العارمة لهزيمة الظلام الذي غمر فجأة كل عالمنا، وذلك في مرحلة من أدق مراحل (صوت العرب)، وقد اختار سعد غزال العقل، وانحاز إلى الكلمة الصادقة، ولكن حماس المؤمنين لم يفارقه حتى النفس الأخير.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s