في الإمارات العربية المُتَّحدة تلتقي بجميع أجناس الأرض تقريباً، وافدين من حوالي (130) دولةً للعمل وطلب الرزق، ولا بأس من قدرٍ من التأهيل والخبرات المُضافة، سواءٌ من خلال التدريب في العمل أو من خلال دوراتٍ في معاهد، أبرزها معاهد المعلوماتية، من كمبيوتر وما يتَّصل به من مهارات، ومعاهد اللُّغة، وجميعها خاصَّة، فكُلُّ شيءٍ بثمنه، أو – على حدِّ تعبير «نزار قبَّاني» – : «بدراهمي لا بالحديث الناعم»، كما تنتشرمحلاَّت ومقاهي «الإنترنت» لأُؤلئك الذين لا يملكون خُطوط الإنترنت في بيوتهم أو من خلالها تتمّ مُراسلاتٌ برقيةٌ تُغني عن البريد البطيء الذي يكاد يندثر، لذلك لا بُدَّ من تطوير وظائفه، و«من سبق أكل النبق».
هذه الجنسيات مُتعايشةٌ مُتناغمةٌ تحت مظلَّة اللُّغة الإنجليزية للعُموم، واللُّغات الوطنية لكُلِّ جاليةٍ على حدة، وقد تمكَّنت الجاليات العُظمى المليونية أو شبه المليونية، كالهنود والفلبِّينيين والعرب والأفارقة والأُوروبِّيِّين، من إقامة مُجتمعاتٍ مُصغَّرةٍ خاصَّةٍ بهم، فلهم مطاعمهم، ولهم صوالين حلاقتهم، ولهم حياتهم الخاصَّة في المنازل والأماكن العامَّة، وكذلك يفعل المُواطنون الذين تُقدَّر نسبتهم إلى السُّكَّان بين (15و20%).
وقد شهدت السنوات الأخيرة انفجاراً سُكَّانياً وافداً مُتناسباً مع ورشة الإعمار الهائلة التي فاقت كُلّ خيال، لكنَّ هذه الأعداد تسبَّبت في أزماتٍ في الإسكان والنقل، ممَّا فاقم الأسعار، كما ازدحمت الطُّرق حدّ الاختناق بالسيَّارات وعزَّت المواقف حتَّى أصبحت نسبةٌ من السُّكَّان لا تُحرِّك سيَّاراتها إلاَّ للضرورات القُصوى، وكانت دُبي هي الأكثر استهدافاً لهذه الأزمات، لكنَّها بعد الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها على خُطط التنمية، تخفَّفت من الأثقال كثيراً، فأصبح من المُمكن عبورها بسلام من جهةٍ إلى أُخرى، وهذه من فوائد الأزمة، «مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد»، حيثُ قبلها لم يكُن أحدٌ يُفكِّر في الذهاب من أبو ظبي إلى دُبي – مثلاً – إلاَّ «للشديد القوي»، أمَّا أبو ظبي، الأغنى والأكثر وفرة، فقد حلَّت الآن محلّ دُبي في استيراد أزمات السكن والنقل والمواقف العُمومية، وتأتي باقي الإمارات في منطقةٍ وسطى بين العاصمتين السياسية والاقتصادية، وقد استفاد بعضها، خاصَّةً الأقرب إلى دُبي، مثل الشارقة المُجاورة وعجمان التي تليها، من النُّموّ المُتسارع، فبنت وعمَّرت وشجَّعت الاستثمارات لاستيعاب فائض دُبي، علاوةً على ما يخصّها من الوافدين، وتقوم الجاليات بتحويل مبالغ ملياريةٍ إلى مَواطنها الأصلية، بعد أن أصبح العالم يتساند على بعضه البعض، فَمَنْ يملك اليد العاملة المُؤهَّلة يهفو قلبه وشوقه إلى مَنْ يملك السيولة ويحتاج إلى التنمية، وعلى حدِّ قول الشاعر :
«الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ
بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم»
بالنسبة للغربيين، باستثناء أصحاب أُوروبَّا الشرقية، فإنَّهم يُمثِّلون النُّخبة، ورواتبهم عالية، وأوضاعهم حسنةٌ ومُميَّزة، حيثُ يجذبهم انعدام الضرائب وعدم وجود أيُّ قيودٍ على التحويلات، وَمَنْ أراد من الوافدين الاستثمار وَجَدَ الأبواب أمامه مفتوحةً في أسواق الأسهم والسندات وفي العقار وفي الشراكة مع مُواطنين في مشاريع تحتاج إلى رُؤوس أموالٍ كبيرة.
الهنود يُسيطرون على سُوق التجزئة للموادّ الغذائية، وخدماتهم لا يُمكن مُنافستها، كما أنَّ ساعات العمل التي يقضونها في محلاَّتهم قد تصل إلى أكثر من (15) ساعةً يومياً، أمَّا الإيرانيين، ففي مجال الجُملة، ويتوفَّرون على خبراتٍ وذكاء، وقد وصل الصينيون، ليس بثيابهم الرثَّة، كما كانوا يأتوننا في اليمن أيَّام «ماوتسي تُونج»، وإنَّما بثرواتهم الطائلة وخبراتهم النادرة، وبالتأكيد سيطردون أجزاءً كبيرةً من جالياتٍ أُخرى يحلُّون محلّها.
الفلبِّينيون يدبُّون كالنمل، مُطيعين ونظاميين، سواءٌ في الخدمة المنزلية أو في سُوق الكوادر الوسطية، وجُمعةٌ مُباركة، وللموضوع صلة.
المقالة الثانية:
في سوق الإمارات الذي شكا كثيراً وطويلاً من النمو المتسارع الذي خرج عن السيطرة بعد أن نمت آلياته الداخلية المحركة مستغنية عن عوامل الدفع أو الكبح من خارجها، بحيث أصبحت الدولة ومؤسساتها المالية والقطاعات التي تملك التأثير عليها كالبنوك والصناديق وشركات التأمين جزءاً من تلك السوق تعطي وتأخذ وتستثمر وتربح وتخسر ولا يمكنها بين ليلة وضحاها أن تقول: كفى، ذلك أن نسيج السوق قد امتص جميع الألوان ومازجها وجعل بنها علائق لا انفصام لها، فأصبح كلعبة الدومينو، إذا أسقطت الحجر الأول تتابع سقوط الأحجار، وهذا ما لا يحتمله أي اقتصاد يمتلك جهاز مناعة يدفع عنه مؤثرات أي تغيير مفروض، فجهاز المناعة الإقتصادي شأنه شأن الإنساني البشري، إذا انهار بفعل استشراء الفساد فيه أو نتيجة تدخل خارجي اجتذب الأمراض كما يجتذب المغناطيس الحديد، لذلك فالدولة في الإمارات – سواء الإتحادية أو المحلية على مستوى كل إمارة من الإمارات السبع – اتجهت إلى التنظيم والمواءمة وإنشاء هيئات الرقابة والتحقق وتقوية القضاء وتسريع أعماله بحيث يواكب حركة السوق السريعة الإيقاع.
وعلى كل فإن مجمل البنية التشريعية لا تأتي من فراغ، أو بيئة قانونية متخيّلة، أو نقلاً عن بلدان وأسواق أخرى وإنما هي استقراء لما يفرزه السوق نفسه من حاجات وثغرات، حيث الإنسان بطبيعته نهّاز للفرص، يقـتاده الربح والمصلحة، ومن هنا يأتي القانون لفض الإشتباكات بين المصالح ومطامع الأفراد وقراءاتهم المتعددة لما يرونه عادلاً وما يعتقدونه حقاً من حقوقهم سواء بالضمير أم بالقانون أم بالحيلة والمغاصبة، مصداقاً لقول أبي الطيب:
كلما أنبت الزمان قناة=ركب المرء في القناة السّنانا
سوق الإمارات الذي يبدأ هنا حقاً ولكنه ينتهي بأقصى القارات حيث مراكز الإستيراد والتصدير، وبالتالي فهو سوق لا ضفاف له، يسير وفقاً لرياح تجارة الترانزيت وحاجات الصناعات النامية التي تدرجت من البسيط، حيث تفصيل القمصان والعبايات إلى المعقــّد والمركب حيث صناعة الطائرات والمراكب والحديد والصلب، وواضح أن من يضع نفسه في قلب التطور لن يعرف حدوداً تحدّه، فالحراك العالمي يشبه الكرة الأرضية نفسها ليس لها أطراف، وهو كالدائرة أي نقطة فيها يمكن أن تكون المركز إذا تصدرت، وتتقهقر إلى حيث لا ترى إذا تدهورت.
في هذه السوق تلتقي بكل الأجناس والثقافات وطرائق العيش ومعتقدات الباطن وشعائر الخارج “هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح” على حد أبي العلاء، ولم تكن أمام أبي العلاء سوى الثنائية، أما الآن فإن العالم انبعثت معتقداته كما تبتعث الزلازل والبراكين ما في باطن الأرض من المصهورات والحمم، فنحن في عصر لا يملك أهله ترف التناحر، وليس أمامهم سوى التعايش واتساع الصدور والنظر دائماً إلى النصف الممتلئ من الكأس، وترك الهداية – التي يرى كل طرف أنه صاحبها – على الله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}، وفي الأخير {لكم دينكم ولي دين}، أما الذين يختارون طرق الإغتصاب العقلي والإكراه الإرادي خارج الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فإنهم هم من سيخرجون من التاريخ أصفار الأيدي “فلا ذا تأتى ولا ذا حصل”.
هنا تذهب إلى (سوق التنين) في دبي – وهو أكبر سوق أقامته الصين خارج أراضيها – فتجد نفسك في بلاد التنين أمام ذائقة الشعب الذي قيل عنه أنه لا يستطيع صناعة شيء قبيح حتى لو تقصد ذلك، فنبع الإحسان والتجويد يتدفق من دواخلهم الحضارية، وموروثهم الضارب في القِدَم، وأرضهم التي تجود بالأعشاب الطيبة كما تجود الصحراء بحبات الرمل. وفي أسواق (ديره) – وهي شبه جزيرة بحرية – تجد بومباي بعطورها الشرقية ومنسوجاتها الزاهية ومشغولات الذهب التي لا تكاد عينك تقع على هندية أو هندي إلا ورأيت الذهب هو الجزء الأبرز من الزينة والمؤنة، ومعروف أن شعب الهند هو المتفوق على كل شعوب العالم في اقـتناء وتخزين الذهب.
في ميناء أبوظبي سوق إيراني يقوم عليه عرب من سكان الجزر والشاطئ الشرقي للخليج، ولهجتهم عراقية أو تكاد، ولكن هذا السوق لم يستقر على حال، ساعة مشغولات تراثية أولية هشة، وساعة مواد غذائية، والآن غلبت عليه مشاتل الزهور. أما القرية العالمية في دبي التي تتطور عاماً بعد عام ففيها أسواق العالم بأسره، الأفارقة بطبولهم، والآسيويون بسحاحيرهم، والعرب بأسواق البهارات، وهناك تجد السعل والبين والمشغولات الفضية اليمنية مع روائح سوق الملح في صنعاء… وخذني معاك إن كنت مسافر خذني معاك…