
عشرة أعوامٍ مضت على بزوغ نجم الكرملين الطاغي فلاديمير بُوتين قادماً من دهاليز وأقبية وظُلمات الاستخبارات الرُّوسية «كي . جي . بي» لقيادة حُطام امبراطوريةٍ كانت عُظمى، فدهورها الزمن الذي يعمل في الخفاء كالسُّوس الذي يأكل لُباب اللَّوح العظيم حتَّى يُحيله هباءً لا يصلح لأيِّ شيءٍ دُون أن يحسَّ به أحد، وأيضاً بسبب التيبُّس العقائدي الذي يُراهن على حتمياتٍ هشَّة هي من صُنع البشر ينحتونها كما ينحتون أصنامهم، ثُمَّ يقومون بعبادتها والانقياد لما وضعوه على ألسنتها حتَّى تضربهم صواعق الواقع ونواميسه وهُم غافلون، فإذا ما انزاحت عن أعينهم الغشاوة قالوا : يا لغفلتنا ويا لهوان ما كُنَّا فيه سادرين.
أضف إلى ذلك طبائع الاستبداد البشري الذي يتَّخذ من العقائد وسائل للاستئثار بالسُّلطة والنُّفوذ ولإقصاء المُنافسين، وليس هُناك أسهل من تركيب الكلام على الكلام لتزكية النفس وإدانة الخُصوم وتضليل الرأي العام، فإذا كان ذلك المسحوق الكلامي مصحوباً بعصا السُّلطة ووعودها، ساغ للناس فأرغموا أنفسهم أو استدرجوها لترى ما عداه باطلاً ولو إلى حين، ذلك أنَّ «لكُلّ أجلٍ كتاب»، وما الصراع المرير الذي نشب بين ورثة لينين، وكان قُطباه الفاعلان جُوزيف ستالين وليون تروتسكي، سوى صراعٍ على السُّلطة والاستفراد بها، وما الغُثاء الكلامي الذي سالت به البطائح والوديان والسُّهوب سوى التأصيل لانحرافات مُنتصف الطريق حين يكرُّ الجبان ويفرُّ الشُّجعان وتكون الخيانة، فتبدأ الثورة تأكل أبناءها، حتَّى لا يبقى سوى واحدٍ أحد، فردٌصمد.
وكان ستالين هُو ذلك الواحد الذي أرسل الملايين إلى الموت في مجاهل سيبيريا، بل إنَّه نقل شُعوباً بكاملها لاخماد أي تمرد دون أن يرف له جفن هذا الموروث هو الذي وصل إلى فلاديمير بُوتين عبر جُورباتشوف، الذي أُعطي مُلكاً فلم يُحسن سياسته حين سوَّلت له نفسه أن يفتح القُمقم الذي مضى على ختمه سبعون عاماً، فإذا بالعفريت وأولاده وأحفاده يطلعون له كأنَّهم رُؤوس الثعابين، ممَّا دفعه إلى الفرار لا يلوي على شيء، و«يا رُوحي ما بعدك رُوح»، فتلقَّاها بُوريس يلتسين في غفلةٍ من التاريخ المُترنِّح وانقضت ولايته بعينٍ على كُرسيّ الحُكم ونعائمه، وأُخرى على قنِّينة «الفُودكا»، كُلَّما عبَّ منها قال : هل من مزيد، وفي لحظةٍ من لحظات التجلِّي والإلهام جاء بفلاديمير بُوتين رئيساً لوزرائه، وبذلك «أعطى القوس باريها»، ولم يكُن يقصد الرمية، ولكنَّ اللَّه رمى، فالرَّجُل الذي يحكم رُوسيا اليوم بيدٍ من حديد غير مُرتعشةٍ ولا وجلة، لم يتوقَّع له المُراقبون أن يمضي بضعة أشهرٍ في بلدٍ عمَّته الفوضى ولصوصية الخصخصة وتحكَّمت فيه المافياوات التي أصبحت دُولاً داخل الدولة تنهب البترول والمُقتنيات الثمينة وتُتاجر في المُخدِّرات وتُحاول مدَّ أذرعها الطويلة إلى الموادّ النووية بعد أن أصبحت عابرةً للقارَّات تُنافس المافياوات التقليدية، بل وتتفوَّق عليها وتكتسحها، فمن أين يبدأ هذا القادم من المجهول الذاهب إلى المجهول الذي لا يعرف أحدٌ عنه شيئاً؟ ففي العالم الذي جاء منه ما تمَّ سوى الظلام والتعمية وتاريخٍ طويلٍ من الدماء وحزّ الرقاب، كانت بدايته الاستقامة في القول والفعل ونظافة اليد ودغدغة الأحلام التي اندثرت باندثار السُّوفيت، وبذلك جمع بين التطهُّر الشيوعي المثالي في أدبيات ماركس وإنجلز، والبراجماتية الراصدة القابضة على كُلِّ فُرصةٍ سانحةٍ في تعاليم لينين وغزواته، والصرامة التي لا تعرف الرحمة ولا تعترف بها في تطبيقات ستالين، وأضاف إلى مُكوِّنات هذه الطبخة اعترافه ويقينه بأنَّ العصر قد تغيَّر، وأنَّ العولمة داهمة، وما عليه سوى ولوج الزمن الجديد، لكن بشُروطه، وذلك هُو أضعف الإيمان، وبضربة مُعلِّمٍ حاذقةٍ جمع أجهزة السُّلطة تحت قيادةٍ صارمةٍ عازمة، فوجَّه أُولى ضرباته للمافياوات ولم يُمكِّنها من التقاط أنفاسها، فبدت أمام الناس المُروَّعين من سطوتها «نمراً من ورق»، وكان ذلك أوَّل الغيث، أن تضرب الجبان ضربةً ينخلع لها قلب الشُّجاع، وفق نظرية عنتر بن شدَّاد.
وفي ظلِّ إحكام السيطرة أخذت موارد الخزينة تتضخَّم، فتوقَّف عن طلب الديون التي قال عنها الإمام علي – كرَّم اللَّه وجهه – إنَّها «هَمٌّ باللَّيل، ومذلَّةٌ بالنهار»، وما إن حانت لحظة رحيل يلتسين عن الرئاسة حتَّى كان القادم الجديد المجهول قد أصبح ملء عين رُوسيا وسمعها، فهُو مالئ الدُّنيا وشاغل الناس، وقد تسنَّم المنصب الأوَّل بتأييدٍ لا نظير له، فمشى في خُططه من تحدٍّ إلى تحدٍّ أكبر، فأمضى فترتين رئاسيتين ثُمَّ جاء بالمُحلِّل ديمتري ميدفيديف، ذلك أنَّ المُهمَّة التاريخية لم تنتهِ بعد، والقيصر لا يُمكنه النزول عن العرش قبل أن ينهي ما نذر نفسه له.