فالج لا تعالج

أدركت الحكمة الشعبية منذ القدم أن اختلال منظومة القيم الفكرية والإلتزامات الأخلاقية التي استخلصها الإنسان من واقع التجارب المُعاشة والشراكة المجتمعية والسلم العام الضروري لبناء الحضارة والإستقرار والنماء سيقود حتماً إلى الفوضى وإعلاء الـ (أنا) على حساب قيم الجماعة، مما يتولد عنه منظومة بديلة منحطة تمجد الحرام وتتخذ النفاق سبيلاً لتحصيل المصلحة والكذب طريقاً سهلاً للتلبيس على الناس، وتجد الذين يعتنقون هذه المنظومة الفاسدة يحاربون الإستقامة ويشجعون على السرقة بإسم الشطارة، وأنه “إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”، و”تغدّى بصاحبك قبل أن يتعشّى بك”، والدنيا ليست سوى شاة من ظفر بها ذبحها وسلخها وأكلها. وتظهر علامات هذا الفساد الذي ينخر الفضيلة ويلوث النفوس ويشيع الباطل بين الناس في مجمل أنواع السلوك المنحرف، في المنزل وفي المدرسة وفي الوظيفة وفي البيع والشراء، وفي انضباط الأسواق والمرور، حتى يصل إلى الجامعات والجوامع ومخادع النوم ومجالس النميمة، ثم يتطور إلى الإستهانة بالنفس التي حرم الله، والإقدام على إزهاقها ظلماً وعدواناً وتجبراً {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين} صدق الله العظيم.

الفساد المستحكم كالسرطان المستشري لا يفيد معه غير البتر، ومواصلة عمليات البتر حيثما ظهر مؤشر على معاودة المرض، وتبدأ الحرب من التربية وتحصين العقل وإعلاء نموذج الفضيلة والحق والخير والجمال، ولذلك فإن جميع الأنبياء والمصلحين لم يبدأوا بالعصا والسجن والقيد، وإنما بدأوا بمخاطبة الفطرة السوية والجانب النوراني الإلهي، الإنسان السادر في غيه، واللاهي عن تحمل الأمانة، ذلك أن الحياة التي أرادها الله تعالى للإنسان ووقاية من الإنحراف هي سلسلة أمانات تبدأ بأمانة الحمل والولادة، وتنشئة الطفل، وإحسان تربيته، ثم أمانة السعي في الحلال والأكل من الحلال وتقديم الواجب على الحق، واليسر على العسر، والرفق على العنف، والتعاون على البر، وإعذار الناس على تتبع هفواتهم وترصد عوراتهم، ثم أمانة التفكر في الكون والخلق والسنن المنظمة للحركة الدائبة، والإعتماد المتبادل، وما أودع في النفوس والعقول من سبل الهداية وطاقات المعرفة، والتواصل مع الله تعالى ليس من طرف اللسان وإنما من أعمق أعماق الضمير، مستودع الأخلاق التي لا تستقيم الحياة بدونها، وهذا ما نفتقده اليوم في حياتنا ومعاشنا وتراحمنا المفترض. حين ذهب الإمام محد عبده شيخ الجامع الأزهر وتلميذ جمال الدين الأفغاني وأحد ألمع المصلحين العرب إلى باريس سألوه عند عودته إلى مصر كيف وجدها وأهلها؟ قال: “وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، وهنا أجد مسلمين ولا أجد إسلاما”. وقد أدرك بثاقب بصره وعميق إيمانه أنه لا مجال للإصلاح إلا عن طريق التربية والتعليم وسن القوانين العادلة للناس جميعاً فهم سواسية، لا فرق بين عربي وأعجمي، وأبيض أو أسود إلا بالتقوى، أما إذا ساروا على قاعدة: إذا سرق فيهم الشريف غضوا أنظارهم عنه وتمثلوا له الأعذار، إلى أن تتحول سرقاته إلى مفاخر ومنابر، وإذا سرق فيهم الضعيف عزروه وحدّوه وجعلوه أحدوثة يُضرب به المثل في سوء المنبت، وبوار المخبر وشر المنقلب.

كيف يصلح مجتمع القوي فيه يأكل الضعيف، ومن لا عمل له إلا الحرام، يتعالى على العاملين، وهذا نداء للنخبة المتعلـّمة والمتنورة من الذين أسرفوا على أنفسهم وضيّعوا أماناتهم وتخلوا عن رسالتهم وانقادوا لأهوائهم ونفوسهم الأمّارة بالسوء، أن يثوبوا إلى فطرتهم السليمة، ويأخذوا بيد مجتمعهم، قبل أن يأتي الطوفان يأكل الأخضر واليابس، وإنما الأعمال بالنيات، لأن الله تعالى لا يغيّر با بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s