عنزة ولو طارت

بدون شك فإن جزءاً من عمل الأحزاب ونشاطها واتصالها بالناس من أنصار مؤكدين وآخرين محتملين، ومن مناكفاتها أيضاً وأحلامها بالحكم والثروة والوجاهة له علاقة بالكلام نتاجاً وتسويقاً وتسديداً وتمويهاً، ولكن أن تحيا بالكلام وحده وتعيش عليه كالطحالب فإن ذلك يخالف المطلوب، ويكسر أحد أجنحة الطائر الذي يحلق بجناحين من قول وفعل، ويفرّغها ويجوّفها – أي الأحزاب – من الداخل فتبقى كالطبل صوته عالٍ وضجيجه يصمّ الآذان ولكن ما إن تخزّه إبرةٌ حتى يبين المستور، وينكشف عن فراغ موحش، وخواء مؤسف. يُفترض بالأحزاب أن تكون مدارس وجامعات للكوادر الراقية والبرامج السامية والنقد البناء، فالحزب المعارض ليس مع الحكومة على طول الخط وليس ضدها حين تُحسن أو تعمل في ظروف صعبة، أو تواجه مهام وطنية تتجاوز الإنقسامات، وتتأبى على تصيّد الهفوات، وهكذا تثبت للناس – الذين تسبح في بحرهم كالسمكة – أنها مؤهلة للقيادة، وأن كوادرها جاهزة، وكل ما تطلبه هو الثقة، ومنحها الفرصة لتحويل برامجها إلى عمل دؤوب منتج ضمن هيئة اجتماعية متصالحة ومُجْمِعة على الأهداف. وما نشاهده ونعايشه ونعانيه يعاكس منطق الأمور وأصول السياسة والتفكير السليم، فالشخصية هي السائدة، والعمل الجماعي هو الغائب أو المغيّب، ففلان من الناس الجهير الصوت هو الحزب إن شاء قيادته يميناً أو يساراً أو سطاً فعل، وإن شاء إقفاله بالضبّة والمفتاح لم يتردد، وهذا الفلان الذي تجده دائماً منفوشاً كالديك، أو على حد قول شاعرنا الراحل المرحوم عبدالله هادي سبيت “وإن حد تكلّم قال ذولا دجاجي”، وحول الزعيم تجد هبشة من الكراكيس الذين يفعلون ما يؤمرون، ويبرّرون ما يسمعون، وينعقون كالغربان بما يُملى عليهم. وتبقى المسألة الحزبية شركة مغلقة، وزَّعت أسهمها مرة واحدة إلى الأبد. وتنمو أجيال جديدة، ويزداد وعيها، وتتجذر رؤيتها، ولكن ما من أحد يفسح لها المجال فـ(الأبوات) قد صادروا البير وغطاها، وما على الوافدين إلى حوش الدجاج سوى النقيق، ولذلك تتيبّس الأحزاب، فتُصاب بأمراض الشيخوخة وأعراض (الزهايمر) الراعشة، التي تعجز معها حتى التوقيع أو التوقع السليم.

في أوائل الستينات من القرن الماضي، كتب المتمرد على الأطر والبابوات، المفكر عبدالله القصيمي كتابه الشهير (العرب ظاهرة صوتية)، فأخذ يشخّص من خلاله مرض (اللهوجة) والنقل، ومصادرة العقل، وكيف أن أمراض الواقع ستُزمن، وجراحه ستتقيّح مالم ينتفض هذا العقل الراكد المستسلم الذي تحرقه نيران الحدثين، فلا يصرخ ولا يتألم، لكأنه ميت مات شعوره قبل جسده، فهو جثة تسعى. الآن بعد مرور خمسين عاماً على صرخة القصيمي، ازدادت الأحوال سوءاً، والأحزاب خبالاً، والأفراد تبلّداً وتسليما. الأحزاب غدت كتاتيب لتصريف الكلام والبحث عمّن يجيدون هذه الصنعة من الموهوبين أو المهرجين. وأعرف حزبياً كان يقاتل بيديه ورجليه، ينتصرُ لـ(أبواته)، ويفند أقوال (أبوات) الآخرين، وكل شيء يقوله حزبه فهو “عنزة وإن طارت”، وقد اشتهر شهرة عظيمة في أوساط حزبه والأحزاب المناوئة التي نالها من لسانه الكثير، وأصبح بينها وبينه مافعل الحدّاد، وقد حار الحزب الحاكم في أمره، فكل الوسائل أخفقت في لجمه، حتى أشار إليهم رجل جاء من أقصى المدينة يعسى، فقال: “رشّحوه للوزارة، وسترون العواقب التي لا تتوقعونها مما يسرّكم”، قالوا: “كيف ذلك؟ ترى جيت تكحّلها عميتها، ومحّد يربي حنش في جيبه”، قال لهم: “المنصب الوزاري لن يطاله، ولو تشبّث بحبال النجوم، ولستم أنتم الذين ستحولون بينه وبينه، وإنما (أبواته) الذين ينظرون إليه كـ(بوق)، حيّا الله إذا منحوه ما يسدّ رمقه، أما التوزير من نصيبهم من الكعكة فدونه خرط القتاد، واستنتج أن الغشاوة ستنزاح عن عينيه، ويرى قيمته ومكانه الحقيقي، وعندها سيشد الرحال إن لم يكن إلى مضاربنا فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم”. وقد ضبطت الخطة، وآتت ثمارها، وحان قطافها، فإذا بصاحبنا قد تحول ولاؤه إلى نقمة، وصداقـته إلى عداوة، فأصبح حرباً على حزب الكلام، مصداقاً لقول الشاعر:

احذر عدوّك مرة=واحذر صديقك ألف مرّة

فلربّما انقلب الصديق=فكان أعلم بالمضرّة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s