أريك الرضا…

لم تعد عمليات الاستنساخ التي ابتدأت بأشهر نعجة في التاريخ (دولي) قاصرة على علوم البيولوجيا وفنون تحويل الجينات واستيلادها من لا ذكر ولا أنثى، إيذاناً بعصرٍ جديد لا يُمكن التنبؤ بمراسيه ولا الإحاطة بآفاقه وآفاته وفتوحاته وإحباطاته، فقد سرت عدوى الإستنساخ – بوعيٍ أو بدون وعي، باقتدار ومهارة أو بغلاظة وغرارة – إلى مختلف مناحي الحياة، حتى أصبح التمييز بيد الأصيل والدخيل ضرباً من التنجيم وهجساً بالتخمين وبالتعميم، وغدا الناس مستسلمين لما تأتي به الريح وتذهب به العاصفة، فمنهم من أوغل في ثمرات العلوم ورياح السموم، وهو غير قادر على التمييز بين المجهول والمعلوم، ومنهم من صرف النظر عن العصر وارتدّ إلى ما قبل التاريخ يجوب مقابر الزمن لعلها تزوّده بقبسٍ أو يجد في رمادها هدى، ومنهم من ولىّ الأدبار، ولحق بشعاف الجبال بحثاً عن فرقة ناجية تؤويه من الطوفان، ومنهم من ركب الموجة يدلس ويعسعس بحثاً عن دنيا يصيبها أو حسناء يستصبيها أو كرسي يلوذ به ويستحلبه.

قلة قليلة هم من شمّروا عن ساعد الجد، يصلون الليل بالنهار، لعلهم يبلغون مطلع شمس الحضارة، أو يحضون بشرف نيل البشارة في موكب الإنسانية الصاعد المتقدةِ جماره، لكن هؤلاء – على ندرتهم ونفاستهم – يُرمون بالحجارة، يعزلون في محاجر المجتمع، ويتّهمون في عقولهم وفي ثمرات علمهم واجتهادهم، مع أنهم حجر الزاوية في أي نهوض مرتقب، لو كان الناس يعلمون، وكان أحرى أن يحتفل بهم الناس كما كانت قبائل العرب تحتفل بنبوغ شاعر منها يذب بلسانه عن مفاخرها، ويدفع ببيانه أعداءها، ويسطرها بأحرف من نور في ديوان العرب المنظوم الذي تسير بذكره الركبان.

لاحظ يا سيدي كيف يستنسخ السياسيون الناجح النابه منهم، فتراهم بين مسبح بحمده وبين ثالبٍ لمجده، ولا يغرنّك التضاد، فكل الطرق لديهم تؤدي إلى الصولجان والهيلمان، أو هكذا يتوهمّون، مع العلم أن السلطة كالغمد لا تتسع لسيفين، فكيف بمئات السيوف المشرعة تتعطش إلى مغارة (علي بابا)، متشبهة بحرامية ألف ليلة وليلة، ودون الكنز الحرام الهلاك والموت الزؤام:

لولا المشقة ساد الناس كلّهم=الجود يفقر والإقدام قتال

جلست إلى سياسي محبط لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، ومع أنه ينعم برغد من العيش، إلا أنه غير راضٍ عن زمانه ولا عن نفسه، بعد أن صارت القطوف – التي ظنها في متناول اليد كعناقيد العنب – أبعد من النجوم السابحة في المجرات الكونية، يصل إلى الأرض خيالها عبر ضوئها الذي قطع المسافات في ملايين السنين، ولا يعلم أحدٌ فيما إذا كانت تلك النجوم باقية أم أنها قد فنيت وأصبحت طعماً لثقب أسود مبطانٍ ليس له من قرار، قلت له: “هوّن عليك يا رجل، ماذا بقي من العمر لتُبيحه للحسرات؟ ثم على ماذا ومن أجل ماذا؟ لو أنك اطّلعت على كتاب (مقاتل الطالبيين) لـ (أبي الفرج الأصفهاني)، صاحب (الأغاني)، لكنت حمدت الله على العافية أولاً، وعلى أمنك واطمئنانك على نفسك وأهلك، وعلى رزقك الميسور الذي لا تحتاج معه إلى بذل ماء الوجه، تخيل أولئك الذين سبقوك والذين انتهوا إلى الزنازين والحرمان وإلى المشانق وساحات الإعدام، وقد عانت أسرهم وفلذات أكبادهم العناء والمهانة من بعدهم”.

نظر إلي وقال: “ما أراك تقول إلاّ كلاماً مُعاداً، ذلك أنك لم تذق سكرة السلطة وانتشاءاتها، وسحرها الذي يفتح كل باب، ويدفئ كل قلب، ويستنسخ ما يشاء كما يشاء وقتما يشاء، وترى الناس شاخصين إلى وجهك كأنك مصدر النور، والمغيث بالمطر، وباعث الربيع بالأنسام والزهر”، ثم أنشد قول المتنبي:

أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا=وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا

لقد أدركت لحظتها أنني أمام مرضٍ مزمنٍ عُضال يُشبه الفالج الذي قال عنه العرب: “فالج… لا تعالج”، وكان صاحبي لحظتئذ قد دخل في أحلام اليقظة وغيبوبتها، فانسحبت خارجاً دون أن أودّعه، ودون أن ينتبه لرحيلي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s