لَكَمْ ينسى الإنسان أو تناسى بالتواطئ مع مشاعره الدفينة المحبطة، البعض يعد النسيان من نعم الله تعالى، فلولاه لنزف الناس حتى تصفّى داؤهم، ثم لا يظفرون بطائل مما أخلف وعده من شؤون الحياة وشجونها وآمالها الخلّب.
وما سمي الإنسان إلا لنسيه=ولا القلب إلا أنه يتقلّب
ولذلك يراهن بعض الساسة وقادة الرأي العام ممن أوتوا شيئاً من الفطنة والحصافة على ضعف ذاكرة الرأي العام المجسدة لقول المغني: “ملعون أبو كل بالي”، فما أن يلوحوا لهم بالجديد من الوعد والوعيد حتى تنحدر الجماهير باتجاهه انحدار السيل من الجبال إلى الشعاب والوديان، لا يلوون على شيء، ولا يتذكرون شيئاً من عهود سلفت، ووعود أزلفت، وزمن ضاع، وحلم ماع، فهم يحذون توصيف عمرو بن العاص في كتابه إلى عمر حذو الحافر للحافر، “أرضهم ذهب ونساؤهم لعب، وولاؤهم لمن غلب، تجمعهم طبلة وتفرقهم عصا”… هذا هو الحال، ومن راهن على النضج وتوقد الذاكرة واهتداء السابلة إلى طرق الفلاح والرشاد، فقد راهن على السرب، ولن يقبض غير الريح، ولن يحصد سوى باطل الأباطيل. تأمل يا سيدي حركة عدم الإنحياز، كم من الأحلام زرعت في عالم وردي، حتى بدت كالفردوس المفقود، تُشد إليها الرحال، ويقتدى بنجومها في الحل والترحال، وفي لحظات النشوء، والتاريخ يستيقظ من سبات العهود الإستعمارية التي شوهت الحضارات وأطبقت على الأعناق والأرزاق، واتخذت سكان العالم الثالث عبيداً يساقون إلى الخدمة عمالاً في المناجم، وفحامين في سكك الحديد، وخدماً في منازل السادة، وخوذاً للحرب، وسياطاً تلهب ظهور إخوانهم الذين يزرعون فلا يأكلون سوى ما يقيم أودهم، لا لأنهم يستحقون الحياة، وإنما لكي يواصلوا الخدمة، ويستمروا في إرسال الثروات الوطنية إلى البلدان الأجنبية، في تلك اللحظات التي أمم فيها عبدالناصر قناة السويس، وخاطب الشعب العربي والأمة بقوله: “إرفع رأسك يا أخي، فقد ولى زمن الإستعمار”، بدت النجوم أقرب منالاً من قطاف الأحلام، وكانت الهند – درة التاج البريطاني – قد ألحقت بالإستعمار البريطاني، الذي أوغل فيها تمزيقاً، أقسى هزيمة دون الخوض في معركة دموية واحدة، فقد ألهمها غاندي نجاعة الكفاح السلمي، والعودة إلى الروح، ومقاطعة كل تعامل مع المستعمر بيعاً أو شراءً، وذلك بالتمسك بأهداب الزهد والحياة البسيطة، وكان الجنرال جوزيف روس نيتو قد استنقذ يوغسلافيا من الستالينية المرعبة، وأعلن عن اشتراكية معتدلة، تتمثل في التسيير الذاتي للإقتصاد، والإستفادة من كلا النظامين الماركسي والأرثوذكسي المنغلق، والرأسمالي الأصولي المنفلت، وفي إندونوسيا تم دحر المستعمر الياباني الذي عاث فساداً في جنوب شرق آسيا، وكان صورة صادقة للإستعمار الشرقي، فأفنى الملايين بلا رحمة وبدون مبرر، ولا تزال عقابيل تلك المأساة تسمم علاقات اليابان مع الصين وكوريا وفيتنام وسنغافورة وماليزيا والفلبين، وقد تناسى البعض جراحه على مضض أملاً في فتح صفحة جديدة من الندية والمصالح المتبادلة، وعفى الله عما سلف، بعد أن تبدلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس، وبعد أن شربت طوكيو كأس الهزيمة مضاعفاً على يد الأمريكيين وقنابلهم الذرية في هيروشيما ونجازاكي، وعرفت معنى الذل والإستسلام وتهشيم الرموز وتدمير الإقتصاد، لكي تخلص إلى نتيجة مؤداها أن ما تعجز عنه القوة السافرة يمكن الوصول إليه بالتراضي وتبادل المنافع ببركات السلم الذي هو مطمع ومطمح جميع الأمم.
الخلاصة: شق الزعماء الأربعة، عبدالناصر، نهرو، تيتو، سوكارنو الطريق الثالث بين قوتين عالميتين في الغرب والشرق، تبحث كل منهما عن أقمار تابعة تدور في فلكيهما، وأسموا فريقهم الجديد عدم الإنحياز، ثم أضافوا إليه الحايد الإيجابي، حين اكتشفوا أنه لا بد من إنحياز إلى المظلوم ضد الظالم، وإلى المستعمر بفتح الميم ضد المستعمر، وإلى الضعيف ضد القوي، وقد مضت بهم وببلدانهم سفينة عدم الإنحياز التي أخذت تكتسب كل يوم الأنصار الجديد من البلدان التي تحررت من ربقة الإستعمار، وأخذت تتلمس طريقها في مفاتن وفتن الإستقلال ولكنها وبدلاً من أن تجمع شملها في وجه أعدائها اتجهت نحو بعضها البعض تتقاتل وتتنافى وتستعين بمستعمريها لنصرتها حتى أصبحت أسطورة عدم الإنحياز أضحوكة الأمم، واليوم إذا يجتمع القادة في شرم الشيخ فلا نقول إنهم يؤبنون كما لا نقول أنهم يدشنون، لأن الأصح هو أنهم يستذكرون، وذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين