يسألونك عن الإبداع وآليات قمعه وتجريمه وتحويله إلى قط أليف يتمسّح بالأقدام بد أن يتم تقليم أظافره وإلباسه كفوف الحرير، ليكون ناعم الملمس لايخربش وضعاً، ولا يزعج فكرة مستقرة، ولا يستثير خيالاً مستفزاً، وكفاه في نظر حُماة الفضيلة الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على الناس والمجتمع وحركة الأفكار أن يكون جزءاً من ديكور هش يعتمد الخداع والبصري، وينأى عن البناء المؤسسي الصلب، ولا يقارب المجهول، أو تتملكه الدهشة تجاه الظواهر التي لا تكف الحياة عن إنتاجها وبلورتها، كما لا يلقي أسئلته على المحرّمات التي تعفنت في سلولها القديمة، وبهتت ألوانها، وانتهت صلاحياتها، فأصبحت قيداً على المبدعين، تمنع التنفس السليم، وتخيط الأكفان لأولئك الذين غامروا وأبحروا وهم القلة القليلة المنذورة للرياح والعواصف، والخلق الجديد السائر على سنن الله تعالى الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وفي تدبر مثل هذا المعنى ثورة وأي ثورة، ذلك أن العقل الإنساني هو من تجليات العقل الكوني، يدور في فلكه، ويتحكم إلى قوانينه، ويستلهمه، بل ويدل عليه، ولذلك قيل في الفلسفة “اعرف نفسك”، فأنت إذا عرفت نفسك قادتك باتجاه المعرفة المطلقة التي لا ضفاف لها:
وتحسب أنك جرم صغير=وفيك انطوى العالم الأكبر
وبالقياس… فإن أعداء التطوّر من سلالة “هذا ما وجدنا عليه آباؤنا” هم أعداء الحياة الذين لا يدركون أن التربة لكي تخصب لا بد من تقليبها عميقاً، وتهويتها جيداً، وتعريضها لأشعة الشمس، كما أن الأشجار لكي تزهر مجدداً لا بد من أن تخلع لباسها الخريفي الأصفر، لكي يجد الربيع متسعاً لإبداعه، ولكي يجد الصيف ثمراً جديداً لإنضاجه، وذلك في إطار دورة الموت والحياة التي إذا ما تمكن الإنسان من الإحاطة بها ارتقى وسلست أمور حياته، وإذا ما جهلها وأنكر قوانينها جلب لنفسه الشقاء والعنت، فأصبح يسير إلى الوراء، بينما تيار الحياة يتدفق إلى الأمام، وهذا ما نلاحظه في قصة الحضارة المعاصر في نشوئها وارتقائها، يقول الدكتور خالص الجلبي المفكر الإنساني المستنير القادم من علم الطب، والمهاجر إلى كندا: “تستطيع كتب الفلسفة أن تصف عصر التنوير بأنه جمع ما لا يقل عن عشر مزايا على شكل حلقات، كل واحدة تؤثر في الأخرى، فقد نشأت الفلسفة السياسية في محاولة لاستكشاف قوانين اللعبة السياسية، وجسّدها كتاب (الأمير) لميكافيللي، وظهرت بدايات الإتجاه الإنساني الذي قام بنقد النصوص الدينية، وذلك لدى إيراسموسن من رودتردام، وتوماس موار البريطاني الذي انتهت حياته مفصول الرأس فوق برج لندن، ثم تقدمت الصنوف التكنولوجية في التعدين والتنجيم، ونظم الري، ثم ولدت المطبعة على دهشة من أوروبا على يد جوتنبرج، ومع الطباعة والأوراق تحرر عقل الإنسان… بموازاة ذلك بدأت عملية إحياء الدراسات الكلاسيكية في الآداب والفنون والفسلفة، كما أنه لأول مرة بدأت العلوم في الإنتعاش والتقدم على كل الجهات في الطب والفلك والجغرافيا والكيمياء وعلم النفس والتاريخ… الخ”.
إنه مثل الحبة التي أنتجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، ولكن تفعيل القوانين في الحياة الإنسانية يلزمه الرواد الشجعان الذين يشقون الطرقات عبر الأجمات الملتفة التي تسد الأفق بالركام المتجمع عبر العصور، وهذا لا يكون إلا بالتضحيات بكل أنواتها، والمواجهات الفكرية الحاسمة مع المقلدين والمستفيدين من الجمود، وأنصاف المتعلمين الذين يرسمون بشقشقة اللسان أكثر مما يرسمون بدماء القلب والوجدان.
في الأسبوع الماضي انعقد في رحاب مكتبة الإسكندرية مؤتمر (آليات الرقابة وحرية التعبير في العالم العربي) وتكشف عن وضع فاجع للحرية التي وصفها الروائي السوري حيدر حيدر بـ “الرقيب السياف”، مستشهداً بالشاعر المكسيكي أوكتافيوبات في مقولته “إن شعباً بلا شِعر هو شعب بلا روح، وأمة بلا نقد هي أمة ميتة”، وتساءل الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة: “وهل هي محض صدفة في اللسان العربي أن تتشابه البدعة والإبداع لفظاً، وأن تشتقا من الجذر اللغوي نفسه، واصفاً قوى القمع بأنها تتربص بالمبدع عند كل منعطف”.
المؤتمر كان نوعاً من “المشاكاة” وتبادل الهموم، وإلى حد ما التفكير بصوت مسموع، ولكن أخشى ما أخشاه أن يكون كل ذلك كمن “يؤذن في مالطا”، حيث الإنصات بأذنٍ من طين وأخرى من عجين:
قد أسمعت لو ناديت حياً=ولكن لا حياة من تنادي