
النَّمِر كائنٌ شديد الخُطورة، إذا نَظَرَ عَصَف، وإذا وَثَبَ قَصَف، وهُو إلى ذلك أُستاذٌ في استراتيجيات القنص، يزحف على بطنه كأنَّه الحيَّة الرقطاء، ويكتم أنفاسه حتَّى تكون الفريسة في مرماه، فإذا تقاربت الخُطوط صال وجال ودُون صولانه وجولانه الموت الزُّؤام، فما هي إلاَّ عدَّة جولاتٍ حتَّى تكون الفريسة قد تجندلت وتعفَّرت وتغطَّت بدمائها، وما أظنُّ «صدَّام حُسين»، الذي قضى شنقاً في ديسمبر 2006م، إلاَّ نَمِرَاً بَشَرِيَّاً كان شديد الوطأة على نفسه وأهله وعشيرته ومُواطنيه وجيرانه الأقربين والأبعدين، فهُو لم يعرف في دُنياه سوى المُنازلات، وكانت هذه المُفردة من أحبّ مُفردات العربية إلى قلبه، وقد أراد أن يُعيد صياغة (25) مليون عراقيٍّ على شاكلته، لكنَّ ذلك يُخالف الفطرة والطبيعة الْبَشَرِيَّة ويُقوِّض العلاقات الدولية المُستقرَّة، كما يُنفِّر الأصدقاء ويستزيد الأعداء ويجعل من السياسة ليس فنّ تحقيق المُمكن، وإنَّما مُغامرة ارتياد المُستحيل، بناءً على نزوعاتٍ رغائبيةٍ وثاراتٍ وتراتٍ تراكميةٍ وتقديراتٍ ذاتيةٍ لا تُعير الواقع والوقائع أيَّة أهمِّيَّة، وقد سلك مثل هذا المنهج النازي «هتلر» الذي قضى في عُشّ النسر الحصين على طريقة «بيدي لا بيد عمرو»، والفاشي «مُوسوليني» الذي تخطَّفت لحمه الضواري ولم يُعرف له قبر، و«ستالين» – وهُو بالمُناسبة مَثَلٌ أعلى لـ «صدَّام» – والذي نال شيئاً من الغُفران لقيادته الباسلة ضدَّ الغزو النازي لبلاده، رُغم أنَّه أعدم من أبناء شعبه من مُختلف القوميات ما يُوازي تعداد العراقيين.
الشاهد في كُلِّ ذلك أنَّ القرار الوطني إذا انتهى إلى يد وتقدير فردٍ واحدٍ لا يستشير ولا يُشار عليه، خوفاً وجزعاً وتزلُّفاً وطمعاً، ومن حوله عُصبةٌ تُؤمِّن على كُلِّ شيءٍ ولا تُؤتمن على شيء، فإنَّ الانزلاق نحو الهاوية يكون أسرع من صخرة «امرئ القيس»، «كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من عَلّ».
جريدة «الشرق الأوسط» اللَّندنية تنشر مُنذُ يوم الجُمعة الماضي وعلى مساحة صفحتين يومياً مع مُلخَّصٍ في الصفحة الأُولى، وقائع عشرين استجواباً لـ «صدَّام حُسين» من قِبَل الـ «إف . بي . آي» – مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي – إضافةً إلى خمس مُحادثاتٍ عاديةٍ أجراها معه «جُورج بيرو» – وهُو مُحقِّقٌ في المكتب، وذلك للفترة ما بين 7 فبراير و28 يُونيو 2004م – في مُعتقله بمطار بغداد الدولي، وقد أصبحت هذه الوثائق ضمن الإرشيف القومي الأمريكي، وهُو الذي أفرج عنها للإعلام، يبدو «صدَّام» غير مُستفَزٍّ وغير مُتحفِّظٍ وغير مُؤمِّلٍ في تغيُّراتٍ تحملها الرياح إلى زنزانته، فقد استسلم لِقَدَرِهِ برباطة جأشٍ معقولة، وكان مُدركاً أنَّ ما يُدلي به سيُشكِّل وثائق تاريخيةً سوف تأخذ طريقها إلى النشر، حيثُ ستكون جُزءاً من صُورته أمام التاريخ والأجيال، وقد بدا أريحياً في تقييم أدوار عددٍ من زُملائه من أُولئك الذين لم يتخطَّفهم الموت، سواءً واصلوا معه حتَّى النهاية، كـ : «عزة الدوري»، و«طه ياسين رمضان»، و«طارق عزيز»، أو أُحيلوا إلى النسيان والاستيداع على فترات، لأنَّهم – على حدِّ تعبيره – قد نفد منهم البترول أثناء المسيرة، ذلك أنَّ الحزبي الجيِّد – حسب وجهة نظره – هُو مَنْ يُؤدِّي المهامّ كاملةً دُون تهيُّبٍ وفي أيِّ موقعٍ كان.
ولم يشأ «صدَّام» الخوض في جهة التكليف وَمَنْ يُكلِّف مَن وأين تتمايز خُطوط الاجتهاد وخُطوط التنفيذ الجبري، ذلك أنَّ الإسناد إلى الحزب والقيادة مفهومٌ فضفاضٌ مُضلِّل، لأنَّ الحزب والقيادة هُما «صدَّام حُسين» نفسه ولا أحد سواه، لذلك عندما يُشير إلى أنَّ الرئيس «أحمد حسن البكر» هُو مَنْ طلب منه أن يحلَّ محلّه، فذلك لأنَّ «البكر» كان منزوع الصلاحية خالي الوفاض من القُوَّة يتحمَّل مسؤولية ما لم يأمر به ولم يُسأل عنه، فلماذا البقاء والاستمرار؟ أَمِنْ أجل ثلَّة مُوترسيكلات أمام موكب، «بلاها»، والمُشكلة في عُمق التفكير، والمنهج هُو التطلُّع إلى صياغة الخارج على غرار الداخل، أيْ تقديم فروض الولاء والطاعة والانصياع بدُون نقاش، لذلك عندما تحدَّث عن غزو الكُويت برَّره بأنَّه لا يُوجد حلٌّ آخر، ولو وُجِدَ لما غزا – حسب ما قاله – وهذا عُذرٌ أقبح من ذنب، فلو كُلّ مُختلفَيْن أعلنا الغزو، لما بقي في العالم حجرٌ على حجر، ولكان الْبَشَر كالأسماك الكبير يأكل الصغير … وللموضوع صلة.
لكم يبدو التاريخ من قاع الهزيمة مدعاةً للسخرية الباردة التي تشبه الماء الراكد الذي تغيّر لونه وطعمه ورائحته، ومع ذلك فليس للظامئ سوى أن يتجرّع قـَذاه، فما من أحدٍ تصفو مشاربه في كل الأوقات. التاريخ من هذا القاع هو “علم قصور الإنسان”، فمجهوله أكثر من معلومه، ومعلومه أكثر من مفهومه، ومفهومه أدنى من أن يكون رسم خُطوطٍ على رمالٍ متحركةٍ لا تكاد تستقر على حال:
أما اليقين فلا يقين وإنما=أقصى منائي أن أظنّ وأحدسا
ولقد بدا صدام حسين في مرآة المُستجوب الأمريكي – لأشهر سجناء مطار بغداد الدولي – متأملاً غير متيقّن من تاريخه الشخصي المثير للجدل، وقراراته العاصفة التي قلبت الدنيا رأساً على عقب، ولا تزال تدوّي حتى الآن، وإن كان دويّ ساعة مهجورة في أرضٍ يباب، بعد أن كان الدويّ في عين العاصفة مخايل أمجاد ضلّت طريقها إلى النبع، فجفّت عروقها، وتصوّحت أغصانها، وأصبحت خاوية على عروشها، ولم يعد الأمر كما صوّره أبو الطيب:
وتركك الدنيا دوياً كأنما=تداول سمع المرء أنمله العشر
كانت لقاءات الإستجواب عمليات جسّ نبض، أشبه بمفاعيل ترويض النمور، فـصدام بقدر ما كان منفتحاً على الرواية باعتبارها آخر نافذة مطلّة على تاريخه، وعنده الإحساس المعقول بأنها لن تحرّف، بمقدار ما كان حذراً من أن الأسئلة ليست سوى فخاخ ستُنصب له في المحكمة، لذلك كثيراً ما توفّق أمام أسئلة الإستيقان حول ما يُعرف بـ (جرائم الحرب)، مثل استخدام أسلحة الدمار الشامل، أو أوامر القتل غير المُبرّر، أو نهب الممتلكات، والإغارة على الحرمات، فتكون إجاباته غامضة معمّمة مثل: “هكذا هي الحرب”، أي أنه لا بد مما ليس منه بد، أما كيف ولماذا ومن، فأمورٌ مؤجلة قد يفهمها الحليم بالإشارة، ذلك أن الصمت جزءٌ رئيسيٌ من بنية الكلام، وكل اللآلئ المُبتغاة دائماً مطمورةٌ في بحر الصمت، أما المنطوق فغالباً ما يكون من قبيل الزبد الذي قد يذهب جفاءً
كان الأمريكي المُستجوِب يُنقّب عن الجذور التي يتصاعد منها النسق القِيمي، الذي يرسم الهويّة ويطبع الثقافة الشرق أوسطية بطابعه، فمن الهويّة والثقافة تتناسل التناقضات والتصادمات، وصورة الآخر العدوّ، والآخر الصديق، وهذا ما يشغل النخبة المهمومة بقراءة الجينومات الحضارية في واشنطن وعواصم الغرب، والتي غادرت منذ زمن التابوهات المحرّمة على العقل، التي ما زلنا نتعثّر بين أنقاضها، حيث نسير في تلمسّنا لمعطيات الواقع الموضوعي، والوقائع الصلبة بعيون مغمضة، وأيد تحمل من أدوات الساحر وقوى السحر السوداء أكثر مما تحمل من مناهج العقل والنظر والقراءة المقارنة.
وكان صدام حسين نموذجاً – وأي نموذج – لهذه الخلطة السحرية المؤمنة بالقائد الضرورة، والـ “أنا” المتورّمة، والإلهام الميتافيزيقي، وإسقاطات التاريخ على مسارات الحاضر، إضافة إلى آليات ما يُعرف لدى الإستشراق بالإستبداد الشرقي غير المقر بوجود الفردانية، فالجموع هي سماد كل المراحل بكل ما يعنيه السماد من معنى لجهة هوانه ونجاسته وانحصار فائدته في التخصيب ليس إلا، لذلك عندما سأل المحقق صدام عن مشاعره تجاه عشرات الآلاف من الأسرى الذين طفح بهم الميدان ليتحوّلوا إلى باحثين عن بُلغة لسد الجوع، لم يبدُ على ردّه أي تأثرٍ أو تعاطف، مُبرراً ذلك بالجوع، وكأن القيادة غير مسؤولة عن إعاشة جندها حين تدفع بهم إلى الأتون، وتتقطع بهم السبل، وجاء التعليق صادماً حين أشار إلى أن إيران أسرت أكثر من هؤلاء، “ومع ذلك كسبنا الحرب”.
والسؤال: “كيف تم الحفاظ على ذلك المكسب”؟ أما تكرار: “هذه إرادة الله” فهي إزاحة للمسؤولية المباشرة للبشر، وإحالتها إلى العالم الآخر، الذي لم نُؤت من علمه إلا قليلاً، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
لم يكُن «صدَّام حُسين» النزيل الأغلى على قُلوب الأمريكيين الغُزاة بين نُزلاء مُعتقل «وزنازن» مطار بغداد الدولي، والمُسْتَجْوَب بنعومةٍ وكياسةٍ من قِبَل «جُورج بيرو»، المُحقِّق في مكتب المباحث الفيدرالي الأمريكي، «إف . بي . آي»، مع حفظ المقامات، وإن كانت وهميَّة، وبما يسمح للكبرياء المجروحة بإقناع نزيفها بأنَّ الاستجواب هُو حوار أندادٍ ومُباراة شطرنج بين عقلين يتماهيان إلى حُدود الصداقة وتبادل الثقة، ويتفارقان ويتنافران إلى درجة إيثار الصمت والإحالة إلى ما سبق، وذلك كُلّه «لا يُفسد للودّ قضيَّة»، لأنَّ العلاقة بين السجين والسجَّان لا تخفى على كليهما، وهي تستبطن الحوار الملغوم، شاءا أم أبيا، ذلك أنَّه بانتهاء كُلّ جلسةٍ من الجلسات الخمس والعشرين يعود السجين إلى زنزانته خلف القُضبان وصرير الأقفال والأغلال، ويذهب السجَّان إلى حُرِّيَّته يُحضِّر ذهنه لمُنازلةٍ أُخرى قد تقوده إلى مربط الفرس العربي أو إلى نبتة الخُلود السُّومرية التي أعجزت البطل الأُسطوري «جلجامش» ليدخل التاريخ مع سجينه يداً بيد، كما كان حال الزعيم «نيلسون مانديلاَّ» مع سجَّانه، حيثُ تلاشت بينهما المسافات، فأدرك كُلٌّ منهما الجواهر الفضِّيَّة في الفضائل المعنوية والمناقبية المُتسامية لصاحبه، وهذا يُذكِّرنا بالنَّبي «يُوسف» وصاحبه في سجن «العزيزة»، والذي ذكره عند «فرعون»، فسطع نجمه في الأرض وفي السماء.
أقولُ : لم يكُن «صدَّام حُسين» في هذه «الدراما» الماراثونية المُرهفة سوى «العربي الأخير» الواقف بمُفرده على «صخرة التنهُّدات» تحت رحمة الرياح وقساوة الخسارات المجَّانية التي أخرجت «أبي عبداللَّه الصغير» من جنَّة الأندلس، كما خرج أبونا «آدم» من جنَّة اللَّه، وكذلك هُو العراق في الذاكرة الذهبية للأمجاد العربية، حيثُ مَنْ خرج أو أُخرج من جنان ما بين النهرين وأرض السواد لا يكفيه الدهر كُلّه لإنشاد الحنين، ولا مياه الفُراتين لإطفاء حرائق الحسرات التي لا تُخمد، شأنها شأن حرائق حُقول النار الأزلية في «كركوك»، التي توزَّع دمُها بين القوميات، التي أراد «صدَّام» تعريبها قسراً وكانت مُتعايشةً دهراً، فلم يتمكَّن في خفاء «مكر التاريخ» سوى إمهارها بأغلى المهور، وهُو «الاضطهاد»، الذي يُحوِّل الشاهد إلى شهيد، وبذلك حَقَّ للكُرد الادِّعاء بأحقِّيَّة الزواج منها زواجاً كاثوليكياً لا انفصام له.
وعلى هذا النمط جَرَت تقريباً كُلّ الأُمور الأُخرى، حيثُ يستسقي الدم الدما، وما كان حقَّاً صُراحاً كشطّ العرب، يُصبح كُفراً بوَّاحاً عقب أنهار الدم، لذلك نجد هُداة البشرية ومُعلِّميها العُظماء يحيدون عن الطُّرق المُعبَّدة بالدماء مهما كانت مُغريةً، ويجنحون إلى السِّلْم والدفع بالتي هي أحسن ليتحوَّل العدوّ المُداجي إلى وليٍّ حميم.
وقد شكا «صدَّام» دُون أن ينوح من أنَّ الاقتصاد العراقي قد انهار في الثمانينيات وما تلاها من السنوات العجاف، بسبب الاستنزاف العسكري والحصار المُتطاول، فشحَّت الأرزاق وتضوَّر الناس جُوعاً، كما حطَّمت الحرب الأُولى غير المُتكافئة مع أمريكا البُنى التحتية، علماً أنَّه ما كان للعراق أن ينتصر، وما ينبغي له في ظلِّ موازين القوى التي لا تناسب بينها في المُطلق، إضافةً إلى الخُروج من حربٍ للدُّخول في أُخرى، كَمَنْ يهرب إلى الأمام باتِّجاه المحرقة بدلاً من التراجع إلى عُمقه الآمن حيثُ احتمالات السلامة.
لقد كان «صدَّام»، في حقيقة الأمر، شيخ عشيرةٍ شعارها ما قاله «أبو فراس الحمداني» : «لنا الصدر دُون العالمين أو القبر»، وكان هذا الشيخ المُحارب مُمتطياً حصاناً قومياً يعلفه بدُولارات النفط، الذي تحوَّل إلى نقمةٍ على العراقيين بدلاً من أن يكون نعمةً من أنعم اللَّه الموهوبة.
المنظومة الذهنية التي صاغت «صدَّام حُسين» ويتوهَّم أنَّه هُو الذي صاغها، هي العُملة الرائجة في الوطن العربي الكبير، حيثُ الحُدود افتراضيةٌ وهشَّةٌ بين القُطري والقومي، وحيثُ القانون الدولي، ذُو الصلة بالسيادة ورسوخ مفاهيمها وما يترتَّب عليها، شبه مُنعدمٍ إلاَّ تحت الإذعان، ومن هذه البُؤرة العميقة في النُّفوس تنطلق الشياطين لتصنع حُروب «داحس والغبراء» دُون أن نتعلَّم شيئاً، علماً أنَّ «اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىْ يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».