
عن 89 عاماً غيب الموت أحد نجوم عدن البارزين في سنوات ازدهارها الذهبية، وهي الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى الاستقلال في 1967م والتي لم تفارق أذهان وأخيلة وذكريات بل وحسرات الذين عايشوها وشهدوا شروق نجومها وأقمارها ونضج ثمارها السياسية والإعلامية والفنية والاقتصادية والثقافية والحراك السكاني الذي جعل من عدن عاصمة مرجعية لليمن ومركز إشعاع في جزيرة العرب وشرق افريقيا وموئلاً للتجارة الدولية وعقدة مواصلات بين المحيطات والقارات، ثم شهدوا بعد ذلك تبدل المصائر وضمور الخيال وعبثية التجريب والبناء على غير أساس فأظلمت المدينة وتصحرت الأرياف ونضبت حتى الشواطئ من الأسماك فأصبحنا نأكل الشارلستون بدلاً من الديرك واللحم المكفن بدلاً من البلدي وعصيدة الرز الصيني بدلاً من البسمتي ونلبس الزي الموحد رجالاً ونساء لا فرق فذلك ما تأتي به المعونات وهي «كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل لله له نوراً فماله من نور» صدق الله العظيم.
نعم غادرنا وعاف دنيانا واتجه إلى ربه طه محمد حمود الهاشمي المشهور بـ«مستر حمود» وهو ملك دور العروض السينمائية في عدن دون منازع والتي كانت بهجة الناظرين ومقصد الزائرين من أرجاء اليمن، وياكم وكم من آهات الإعجاب وصيحات الاستحسان ودموع التعاطف مع الضحايا ذرفت في تلك الصالات فقد كانت فنون السينماء والتمثيل في باكورة صباها الجميل مروجة للجمال والموسيقى والغناء وشؤون العواطف وشجونها وما إن يعرض الفيلم حتى يصبح حديث الشارع والمقهى والمقيل مما يضاعف الإقبال عليه ولم يكن هناك من منافس لا «فيديو ولا فضائيات ولا سيديهات» فسلوة الناس العاشقين لهذا الفن السينما ليلاً وأسطوانات الغناء نهاراً وكان طه مستر حمود قد ضرب بسهم وآخر في الاتجاهين حيث أنشأ شركة «طه فون» في أواخر الاربعينيات من القرن الماضي وأنتج من خلالها أسطوانات غنائية لمشاهير الغناء اليمني أمثال إبراهيم محمد الماس ومحمد جمعة خان وأحمد عبيد قعطبي وصالح الزبيدي وغيرهم، وهي جزء من تاريخ تطور الغناء اليمني واتساع قاعدة جمهوره ونشر التذوق الفني ولا أدري إذا كان مكتب الثقافة في عدن قد فكر في إنشاء صالة أو متحف يعرض ويوثق لتلك المنتجات التي تتآكل مع الزمن ولم يبق منها إلا ما بقي من أطلال خولة طرفة بعد العبد ووشمها:
لخولة أطلال ببرقة تهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
لقد بدأ طه مع السينما الصامتة في صالة بمنطقة القطيع في كريتر ثم أسس سينما «هريكن» أي العاصفة والتي كان العامة يطلقون عليها «سينما مستر حمود» وهي لا تزال قائمة في كريتر إلى اليوم مقابل محطة البترول في «الميدان» ثم أنشأ «الجريدة» في التواهي وراديو في المعلا والشرقية في الشيخ عثمان وكان له باع في النشاطات الرياضية والثقافية فقد ترأس نادي الحسيني، التلال حالياً، لخمس دورات وهذه الرئاسة تعني في ما تعنيه آنذاك تمويل ومساعدة اللاعبين وتهيئة الأجواء للمشجعين، كما قام طه خلال فترة ترؤسه للنادي بإيفاد عدد من الطلاب للدراسة في الخارج هذا ولم يكن مجرد موزع للشرائط السينمائية فقد أسهم في إنتاج عدد من الأفلام المصرية وكانت عروضه حصرية، كما أنه نسج علاقات صداقة وعمل مع عدد من الفنانين العرب أمثال: عبدالحليم حافظ، فريد الأطرش، ماجدة، ومحمود المليجي، ونوع في عروضه بين الإنتاجين المصري والهندي حيث كان للسينما الهندية جمهور كبير سواء من الجالية الهندية المقيمة أو من الجمهور العربي الميال إلى الميلودراما الهندية ومآسيها العاطفية وأغانيها الرقراقة الشجية.
على كل حال ما كان للحياة أن تتدفق بالنجاح دون توقف فقد ولى زمن السكينة والإنتاج وجاء زمن المنغصات فتعرض طه لمحاولة اغتيال أيام الصراعات بين الجبهتين ثم جرى تأميم كل ممتلكاته كما سائر رجال الأعمال حتى أنه أرغم على دفع ثمن أفلام متأخرة سيعود ريعها للدولة، وقد هاجر من عدن إلى جيبوتي ثم إلى بيروت فلندن قبل أن يعود عقب الوحدة وتعاد إليه أملاكه.
رحم الله طه محمد حمود وغفر له.
رحمه الله